غزوة بني المصطلق
غزوة بني المصطلق
كانت العيون تأتي بالأخبار للمسلمين عن العرب جميعًا، يراقبونهم حتى لا
يفاجئوهم بحرب أو خيانة، وعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن زعيم بني
المصطلق -وهم من اليهود- يجهز قومه للهجوم على المدينة، ولما تأكد رسول
الله صلى الله عليه وسلم من هذه الأنباء جهز جيشه، وغزا بني المصطلق،
واتخذهم أسارى وسبايا، وكان في السبي جويرية بنت الحارث -بنت سيد بني
المصطلق- فأعتقها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوجها، ولما انتشر الخبر
بين
الناس، قالوا: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعتقوا مائة أهل بيت
من بني المصطلق إكرامًا لمصاهرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم، فكانت أكبر
نعمة عليهم إلى جانب نعمة مصاهرة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم.
المنافقون في هذه الغزوة:
ظهرت طبيعة المنافقين في هذه الغزوة، فبينما المسلمون يسقون من بئر تزاحم
على الماء جهجاه بن مسعود -غلام عمر بن الخطاب- مع رجل من الأنصار اسمه
سنان بن وبرة حليف الخزرج، وتضاربا، وكاد الخلاف يتحول إلى معركة فقد اختلف
المهاجرون والأنصار، فهدأهم الرسول صلى الله عليه وسلم فأطاعوه، وانتهى
الخلاف، ولكن المنافق عبد الله بن أُبي اتخذ هذه الواقعة فرصة لتقوية
الخلاف بين المهاجرين والأنصار، فقال: أو قد فعلوها؟ قد نافرونا وكاثرونا
في بلادنا، والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل: سَمِّن كلبك
يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل.
وأراد ابن سلول طرد الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين من المدينة، وأخذ
يحرِّض الناس على المهاجرين، ويأمرهم بعدم التعاون معهم أو الإحسان إليهم
حتى يتركوا المدينة ويرحلوا عنها، وسمع زيد بن أرقم كلام عبد الله، وكان
زيد غلامًا صغيرًا، فأسرع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبره بما قاله
عبدالله بن أُبي، فغضب عمر -رضي الله عنه- وطلب من الرسول صلى الله عليه
وسلم أن يقتل هذا المنافق، لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (كيف يا
عمر إذا تحدث الناس إن محمدًا يقتل أصحابه) _[ابن سعد].
وعندما علم أسيد بن حضير بما قاله عبد الله بن أبي قال للنبي صلى الله عليه
وسلم: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو -والله- الذليل وأنت
العزيز، ثم قال : يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن
قومه لينظمون -يعدون- له الخرز (فصوصًا من الجواهر) ليتوجوه، فإنه يرى أنك
قد سلبته ملكه.
وعلم عبد الله بن أبي أن زيدًا أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بما قاله،
فأسرع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلف له كذبًا أنه ما قال شيئًا،
ودافع بعض الحاضرين عنه، فقالوا: عسى أن يكون الغلام أوهم في حديثه، ولم
يحفظ ما قال الرجل، وإذا بالقرآن ينزل فيفضح المنافق عبد الله بن أُبي
ويصدق زيد بن أرقم قال تعالى: {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول
الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون .
يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله
وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون} [المنافقون: 7-8].
وكان للمنافق عبد الله بن أبي ابن مؤمن مخلص في إيمانه اسمه عبد الله
أيضًا، فلما علم بذلك تبرأ من أبيه، ووقف على أبواب المدينة يرفع سيفه،
ويمنع أباه من دخولها، ويقول لأبيه: إن رسول الله هو العزيز وأنت الذليل،
ولن تدخل حتى يأذن في دخولك، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أذن له ورفض أن
يقتل
عبد الله والده، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا).
حادثة الإفك:
بعد غزوة بني المصطلق، وفي طريق العودة، استراح الجيش بعض الوقت، وبعد فترة
استعدوا للرحيل، وبدأ الرجال يرحلون، وذهب بعض المسلمين إلى هودج السيدة
عائشة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو خباء يوضع على البعير فحملوه على
بعيرها، وهم يظنون أنها بداخله، ولكنه كان خاليًا، فقد ذهبت السيدة عائشة
-رضي الله عنهما- تبحث عن عقد فقدته، فلما رجعت وجدت المكان خاليا وقد رحل
القوم، فجلست وحدها تنتظر، وكان في مؤخرة الجيش الصحابي صفوان بن المعطل
-رضي الله عنه- وكان يتأخر ليجمع ما يقع من الجنود، فلما مر بالمكان وجد
السيدة عائشة جالسة فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون .. ثم أناخ الجمل،
وأدار ظهره حتى ركبت السيدة عائشة، وانطلق يقود الجمل حتى لحق بالمسلمين.
ووجد المنافقون فرصتهم الكبيرة في التشنيع على أم المؤمنين والنيل من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأشاعوا أن صفوان بن المعطل اعتدى على السيدة
عائشة واتهموهما بالفاحشة، وهكذا روَّج المنافق عبدالله بن أُبي وآخرون معه
هذا الكلام البذيء، حتى صدقه بعض الناس، وأراد الله تعالى أن يختبر
المؤمنين، وأن يعلمهم درسًا عمليًّا في عدم تصديق الشائعات.
فلم ينزل الوحي بهذا الشأن شهرًا كاملا، وظل خلاله الرسول صلى الله عليه
وسلم حزينًا، وأبو بكر لا يدري ما يصنع، أما السيدة عائشة فقد عادت مريضة
من الغزوة، ولزمت الفراش، ولم تعلم بما يقوله الناس، فلما علمت ظلت تبكي
ليل نهار، وعندما اشتد بها المرض استأذنت من الرسول صلى الله عليه وسلم
وذهبت إلى بيت أبيها فجاءها الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منها أن تستغفر
الله إن كانت فعلت ذنبًا، وإن كانت بريئة فسوف يبرئها الله، فسكتت السيدة
عائشة عن البكاء، وقالت: لو قلت لكم إني مذنبة صدقتموني، وإن قلت لكم بريئة
لم تصدقوا، والله يعلم أني بريئة، ولا أقول سوى ما قال أبو يوسف: {فصبر
جميل والله المستعان على ما تصفون} [يوسف: 18].
ونزل الوحي يبين أن السيدة عائشة -رضي الله عنها- بريئة من هذه التهمة، قال
تعالى: {إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير
لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .
لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين .
لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم
الكاذبون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسكم في ما
أفضتم فيه عذاب عظيم . إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به
علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم . ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا
أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم . يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا
إن كنتم
مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم . إن الذين يحبون أن تشيع
الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم
لا تعلمون . ولولا فضل الله عليكم ورحمته وإن الله رءوف رحيم}
[النور: 11-20].
وعادت الفرحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين جميعًا، وعاقب
الرسول صلى الله عليه وسلم الذين اتهموا السيدة عائشة بالفاحشة، وكانوا
يروجون هذا الكلام الكاذب، فأقام عليهم حد القذف ثمانين جلدة، وكان منهم
مسطح بن أثاثة ابن خالة أبي بكر، وكان أبو بكر ينفق عليه لفقره وحاجته
فأقسم ألا يعطيه درهمًا واحدًا بعد ما قاله في حق ابنته، ولكن الله -تعالى-
أراد أن يستمر عطاء أبي بكر، وإحسانه إلى مسطح، فكفَّر أبو بكر عن يمينه،
وأعطى ابن خالته ما كان يعطيه.