تنين الأبداع مرشح لفريق الابداع
المهنه : المزاج : الجنس : بلدي : عربي وكفي محافظة : المحرق عدد المساهمات : 241 نقاط : 723 تاريخ الميلاد : 16/11/1998 تاريخ التسجيل : 18/06/2013 العمر : 25
| موضوع: قصة يا فرحة ما تمت_بقلم فاطمة زكى الجمعة يونيو 21, 2013 1:42 pm | |
| يا فرحة ما تمت يرن المنبه بصوته المزعج كالعادة قاطعا الصمت ،معلناً عن الساعة الخامسة صباحاً،وبضيق ينهض عم "سعيد"،ويمسك المنبه بعصبية ويكتم صوته المزعج، يفرك عينيه وهو يتثاءب بقوة ،ثم يتناول نظارته السميكة ويضعها على عينيه الناعستين،يلكز زوجته النائمة كى تستيقظ، ينهض بتثاقل يجر جسده النحيل ،ويذهب ليتوضأ ،ثم يصلى الفجر بتأني ،ينتهى من صلاته فيجد زوجته أعدت طبق الفول بالزيت الحار، وحزمة جرجير وإلى جانبهم صحن عسل أسود صغير. يتناول إفطاره الروتينى بهدوء ،فعم سعيد لا يتناول سوى الفول حتى يصمد طوال يومه الشاق ،ففى إحدى المرات لم يتناول الفول ،وتناول قطعتين جبنة قريش و كوب شاى ، وعند الظهيرة شعر بالجوع المفاجىء...وتشتت عقله ..وقل تركيزه ..ومن يومها طبق الفول لا يفارق مائدة إفطاره..فهو يسد جوعه ويشعره بالشبع لمدة أطول. وعلى عجل دخل عم " سعيد" غرفته وارتدى قميصه الرمادي وبنطاله الأسود القديمين ،فمنذ سنوات لم يشترى أى ملابس جديدة ،لديه فقط ثلاثة قمصان وبنطلونين وجاكت سميك يلبسه فى الشتاء،كيف يشترى الملابس وراتبه يتبخر عند منتصف الشهر،يكفى أجرة البيت والطعام وفواتير الماء والكهرباء،والشهر وراء الشهر. ولم يكن عم "سعيد" سوى موظفا بإحدى المصالح الحكومية فى قسم المحاسبة..،نزيه لا يقبل الرشوة على نفسه مطلقاً ،عكس بعض الزملاء الذين يقبضون أمام عينيه المئات والآلاف ،ومع ذلك فهو اتقن دور الأعمى والأخرس والأصم من أجل لقمة العيش ..ومن أجل ماذا؟ من أجل ثلاثمائة جنيه فقط شهرياً..وكم كان يشعره سكوته إزاء تلك المخالفات بالقزم والعجز؟ كان فى بداية الأمر يشكو إلى مدير المصلحة عما يراه من فساد ،فكانت شكواه تلقى الإهمال ،أو يلقى التوبيخ ،أو يخصم جزء من راتبه ،ولكنه فى النهاية سلم بالأمر عندما علم أن مدير قسم المحاسبة متواطىء مع مدير المصلحة الذى كان يعلم جيدأ كل هذه المخالفات، و يوافق على ذلك الفساد الإدارى والمالى،فهو المستفيد الأكبر. كان عم سعيد لا يشعر بالسعادة إلا فى وجوه أولاده الأربعة ...أكبرهم فى الخامسة عشرة وأصغرهم فى الرابعة من عمره، كل صباح يفتح باب غرفتهم ،ويلقى نظرة عليهم وهم نائمون .. كل ولدين على سرير واحد ...كم يحبهم ؟ ....وكم كان يتمنى لو أنه وفر لهم حياة أفضل من هذه؟ ..كم كان يود أن يوفر لهم بيت أفضل...تعليم فى مدارس خاصة..طعام شهى..ملابس العيد...ألعاب ،لكن أحلامه تبخرت ..فالواقع مرير..والحياة قاسية لا تعطى كل شىء. يغادر البيت مودعا زوجته الصالحة،وهى رافعة يديها إلى أعلى وسيل من الدعوات يجرى على لسانها ،كى يرزقه الله ويسهل له طريقه،استبشر خيراً،وانطلق سائراً على قدميه بخطوات ثابتة حتى وصل محطة الأتوبيس المكتظة بالناس،ينتظر قرب ثلث ساعة حتى مجىء أتوبيسه، يجرى خلف الأتوبيس ،ثم يندفع نحو الباب وهو يزاحم الناس كى يركب،وبصعوبة تشق الأنفاس استطاع الركوب...ركوب علبة السردين ..يشق الزحام.. ويتفادى الوقوف قرب النساء ،ويحاول أن يقف قرب أى شباك ،عله يحظى ببعض الهواء النقى.. وعند اقتراب محطته،استعد واتجه ناحية الباب بصعوبة،وقف الأتوبيس،ونزل منه أخيراً.. مشى على أقدامه شارعين حتى وصل على الوقت المحدد للعمل إلى مبنى ضخم قديم ..كئيب الشكل..لونه بنى باهت،وصل إلى بوابته المعدنية، وألقى التحية على البواب،ودخل متجها إلى غرفة صغيرة ،ووقف فى طابور من الموظفين ،كى يوقع على حضوره ،يا الله كم من طابور سيقف ..طابور الجمعية..طابور العيش ...طابور صرف الرواتب.... يكتب اسمه سعيد عثمان ،وقت الوصول الساعة الثامنة ،ثم ينطلق إلى غرفة الجحيم " قسم الحسابات" ،غرفة كبيرة تراصت فيها المكاتب بشكل متقابل ،وجلس على مكتبه المتواضع ،وقد تكدست عليه الملفات التى غطتها الأتربة ،وبدأ عم سعيد الدخول إلى عالم الأرقام ،كان ينتقل من ملف إلى ملف..هذا ملف الرواتب..وذاك ملف الميزانية، دقائق وحالة الملل تسيطر عليه بشدة ،فهو طوال عشرين عام يدور فى كوكب المحاسبة ،لم يأخذ إجازة فى حياته سوى الإجازات الرسمية ..فالمهية لا تحتمل الخصم. وفى إحدى الأيام تنقلب الموازين لأول مرة لصالح عم سعيد،فجأة عندما دخل الساعى مطأطىء الرأس يزف لهم خبر وفاة رئيس قسم المحاسبة،قائلا بأسف:مدير قسم المحاسبة تعيشوا أنتوا.. التف حوله الموظفون يتسألون ماعدا عم سعيد الذى كان يسترق السمع من بعيد:كيف مات؟ومتى؟ الساعى موضحاً:مات فى حادثة عربية ،أمبارح بليل..وده كل اللى اعرفه.. لسه مفيش أخبار ..لكن أول ما أعرف حاجة هقولكوا. قائلاً أحدهم : لا حول ولا قوة الا بالله علق أخر بقرف :يبقى أكيد سعيد حيبقى المدير الجديد ..يا وقعة سودة. الثالث بانزعاج:ده أقدم موظف يعنى أكيد هو المدير الجديد ثم ينظرون ناحية عم سعيد بامتعاض وضيق،فتعينه كمدير على قسمهم بمثابة الكارثة التى ستعلق آمالهم فى اقتناص الفرص الذهبية للاختلاس وقبض الرشاوى ،ولكنهم سارعوا ورسموا على شفاهم إبتسامة مصطنعة،مخفين غيظهم . لحظات وأتى "عبد المجيد" مدير المصلحة يبدو عليه الرزانة والوقار ،أصلع سمين يرتدى نظارة نظر سميكة ،دخل بجدية وأعلن وفاة مدير قسم المحاسبة وفى نفس الوقت مد يده وهنيء عم سعيد بتعينه مديراً على قسم المحاسبة ، كاد عم سعيد يطير فرحا ،فلأول مره ينصفه الزمن ويأخذ مكانه الحقيقى،بالإضافة إلى الراتب الكبير الذى سيجعله يسدد ديونه التى تلتف حول رقبته كالطوق وتخنقه. ، وقد تحلق الجميع حوله يمطرونه بعبارات المديح والترحاب ، ظل عم سعيد صامتاً يراقب بقرف محدثاً نفسه:النهاردة تمدحونى وبكره تشتمونى..أه منكم يا حثالة البشر. دقائق و انفضوا من حوله بسرعة البرق ، ففى قرارة أنفسهم يعلمون أن عم سعيد لا يحب المدح والمداهنة. وفى المساء يعود عم سعيد مبتهج،يحمل فى يده كيلو ونص من الموز..حلاوة الترقية،دخل على أولاده فوجدهم يجلسون حول الطاولة يستذكرون دروسهم ،استقبلوه بفرحة كبيرة ..قبلهم جميعاً وناولهم كيس الموز،فتحوه وأكلوا منه بسعادة ،فالفاكهة لا يأكلونها إلا نادراً..أتت زوجته من المطبخ بعدما سمعت صوته فى الصالة،رمى عليهم الخبر السعيد..ابتهجت زوجته وباركت له قائلة : مبروك ..الحمد لله ربنا عوض صبرنا خير..وأولاده قفزوا فرحاً،وطلبوا منه عدة أشياء كتبوها فى ورقة أولها زيادة المصروف،ثانيها دراجة لون أحمر..وثالثها حقيبة مدرسية و.. والقائمة تطول ،طوى الورقة عم سعيد ووضعها فى جيبه ووعدهم بأنه سيشتريها الشهر القادم،تغدى معهم ،ثم التفوا فى المساء حول شاشة التلفزيون يحضرون إحدى المسلسلات القديمة. تسرب النعس إلى عينيه وقبل الساعة التاسعة ذهب إلى سريره ولأول مرة ينام قرير العين ..هادئ البال ..لا يحمل هم غده . وفى اليوم التالى ذهب إلى عمله تنبض كل خطوة بالنشاط والحيوية وكأنه شخص جديد،على الرغم أنه غداً سيستلم مهام المنصب الجديد،دخل المبنى وكانت العيون ترمقه بنظرات غريبة ..نظرات ساخرة متهكمة ،لم يفهم سببها ،لكنه أكمل سيره حتى قابل الساعى الذى أخبره على الفور بأن المدير "عبد المجيد" يريده فى الحال . اتجه مسرعاً بقلب مرتجف ..خير يارب خير دق على الباب ،ثم دخل ومشى حتى وقف أمام المكتب،وكان المدير يتحدث هاتفياً ويقلب فى إحدى الملفات التى أمامه ،غير عابىء بوجود عم سعيد ،دقائق وأنهى المكالمة ، طلب من عم سعيد الجلوس،شكره وجلس،مرت لحظة صمت ثقيلة،عم سعيد بفضول:خير يا سعادة المدير. عبد المجيد بنبرة مترددة :أنت يا سعيد رجل كفاءة ..ملفك زى الفل. عم سعيد بسعادة:ربنا يكرم أصلك. عبد المجيد بنبرة جامدة : بس ..المنصب.. بقى من نصيب فؤاد بيك زلزل الخبر عم سعيد ،تاهت الكلمات حتى استطاع أن ينطق:إزاى بس؟..إزاى ..تضيعوا حقى فى الترقية ؟ المدير ببرود:اللى حصل ..أوامر من فوق عم سعيد معترضاً:لا أنا مش حسكت ..ده ظلم..ظلم المدير بنبرة تهديد:اتفضل على شغلك ..بلاش أحولك للتحقيق..وأرفدك. عم سعيد يغادر وهوغاضباً بشدة: عشرين سنة وأنا فانى عمرى فى المصلحة ،وفى الأخر يسرقوا منى الترقية..ده ظلم...ظلم ... حسبى الله ونعم الوكيل. كان الموظفون يقفون خارج غرفة باب المدير ، يتهكمون على عم سعيد المسكين ، تلسعه نظراتهم الشامتة كالسياط،وتخنقه قهقهاتهم الشريرة..وتعليقاتهم الفظة الجارحة _كان فى واحد بيحلم أنه يكون مدير. _تروح فين يا صلعوك بين الملوك. تنفجر الضحكات من حوله ،ولا يملك سوى أن يغادر المكان،يخرج للشارع ويمشى بلا هدف ،محنى القامة..مطأطأ الرأس، ولا زالت كلماتهم ترن فى أذنيه تذبح روحه يشعر بمرارة لم يشعر بها من قبل وهزيمة تشنقه،يلعن حظه الأسود ، لا يدرى كيف سيذهب و يخبر زوجته وأولاده بما حدث ؟بأى وجه سيقابلهم ؟ هبط الليل وعم سعيد لازال يسير حتى آلمته قدميه كثيراً ،وفى نهاية المطاف قرر أن يعود إلى بيته،ركب الأوتوبيس الذى كان مكتظاً بالناس،وقف متعباً حتى عطف عليه شاباً و أجلسه مكانه ،شكره لذوقه ،وجلس والأفكار السوداء تعبث فى وجدانه ، يأتى الكمسرى طالباً ثمن التذكرة ، يخرج النقود وتسقط ورقة صغيرة ، يدفع النقود ،ويمد يده أسفل الكرسى ويتناولها ،يفتحها ،أنها طلبات أولاده التى طلبوها منه ، ترتجف يديه وتمتلئ عينيه بالدموع ،ويتنهد من أعماقه تنهيدة عظيمة ، يطوى الورقة ويضعها فى جيبه ،ما ذنب أطفالى أن يعانوا الحرمان؟ماذا اقترفوا حتى تسرق ابتسامتهم ،يشعر بالوهن،ثم يتعرق بغزارة ،وتسكن حركاته،يمر الوقت بطيئاً ثقيلاً حتى يصرخ السائق :أخر الخط ..أخر الخط . توقف الأوتوبيس ،ثم بدأ جميع الركاب بتهيئة أنفسهم للنزول ..الواحد تلو الأخر حتى فرغ تماماً ماعدا من رجل واحد ،ظل جالسا فى مكانه ،نادى الكمسرى عليه : يا أستاذ ..أخر الخط ... يا أستاذ . لكنه ظل ساكناً ،اقترب منه وامسك يده التى افلتت وسقطت، كان الكمسرى حائراً لا يعرف ماذا أصابه .. ثم قال بصوت مرتجف : شكله مات. أتى السائق ليتأكد يتحسس نبضه فلم يجده وبآسى قال :أن لله وأنا إليه راجعون الكمسرى بحزن :لا حول ولا قوة إلا بالله ثم يخرج السائق محفظته ويفتح بطاقته ليعرف اسم الرجل المتوفى أمامهما أنه ....سعيد عثمان عبد الحق . ولد فقيرا وعاش مسحوقا ومات مظلوما
بقلم فاطمة زكى
| |
|