بسم الله الرحمن الرحيم
1- ولما كان اختلاف الأنظار ، وتشعب الآراء تبعاً
لذلك مما تقتضيه طبيعة الإنسان، ولا يمكن الانفكاك عنه، تفضل الله سبحانه
وتعالى – رأفة بعباده – فجعل أصول هذا الدين الذي جاء به خاتم النبين، وكذلك
جعل أمهات الفضائل التي أجمع العالم الرشيد على حمدها، واقتنع بجليل نفعها،
وكذلك جعل أمهات الرذائل التي أطبق العالم على قبحها . جعل سبحانه كل ذلك في
عبارات جليه واضحة، ونصوص بينه لا تقبل صرفاً ولا تأويلاً، ولا جدلاً ولا مراء،
وجعلها هي أم الكتاب التي يدور حولها كل ما جاء فيه من أحكام، ويرجع إليها كل
معاني عباراته، ولم يعذر أحداً في الخروج عليها، وحذر من التلاعب بتأويلها،
وتطويعها للأهواء والشهوات، وعذر الخلق إذا ما اختلفوا في غيرها ورفع عنهم
الحرج. بل منح المخطيء منهم في اجتهاده أجراً، والمصيب أجرين تشجيعاً للبحث
والتأمل، لاستجلاء ما فيه من المصلحة الراجحة للجميع.(1)
2- والسبب في بقاء سلطان الخلاف والنزاع هو فشو الجهل، وتعصب أهل الجاه
من العلماء لمذاهبهم التي ينتسبون إليها، وبجاهها يعيشون ويكرمون وتأييد
الأمراء والسلاطين لهم استعانة بهم على إخضاع العامة، وقطع طريق الاستقلال
العقلي على الأمة. لأن هذا أعون لهم على الاستبداد، وأشد تمكيناً لهم مما يحبون
من الفساد والإفساد. لأن اتفاق كلمة علماء الأمة واجتماعها على أن الحق كذا،
بدليل كذا ملزم للحاكم باتباعهم فيه، لأن الخواص إذا اتحدوا أتبعهم العوام،
وهذه هي الوسيلة الوحيدة لمنع استبداد الحكام .(2)
3- قال الغزالي-رحمه الله- يطلب من العلماء –عند بحث مسأله- أمور :
الأول: أن تكون المناظرة في المسائل التي يكثر حدوثها، وتكون واقعة أو قريبة
الوقوع، كما كان يفعل كبار الصحابة، والإمام مالك بن أنس رضي الله عنهم .
الثاني: أن تكون المناظرة في خلوة، لأنها أجمع للفهم، وأقرب لصفاء الذهن، ولأن
في حضور الجمع الكثير ما يحرك دواعي الرياء والحرص على الغلبة، بالحق أو الباطل
.
الثالث: أن يكون كل طرف من طرفي المناظرة في طلب الحق كناشد ضالة، لا يفرق بين
أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، فهو يرى في رفيقه معيناً ومساعداً
في الوصول للحق لا خصماً، فلذلك يشكره إذا نبهه لموضوع الخطأ، وأظهر له
الحق.كما لو سلك طريقاً خطأ في طلب ضالته، فنبهه صاحبه إلى أن ضالته سلكت
الطريق الآخر فإنه يسر به ويشكره.(3)
4- وقع الخلاف بين علماء الأمة، تبعاً للاختلاف في رواية النصوص أو في
دلالتها، أو لعدم العلم بالنص والرجوع في أخذ الحكم إلى القياس مثلاً.
وكانوا متفقين على أن من خالف مضمون نص لم يبلغه أو معنى نص غير قطعي الدلالة
لأنه لم يظهر له هذا المعنى، وبذل جهده في استبانة مراد الشارع في مسألته،
فترجح عنده فيها شيء فعمل به مخطئاً فهو معذور.
وخير مثال على ذلك :أن الأحكام العملية التي هي موضوع علم الفقه منها ما ثبت
بالدليل القطعي المجمع عليه كأركان الإسلام، وتحريم الفواحش، وهو ما يكون
باتباعه المسلم مؤمناً، وبجحده أو استحلال مخالفته كافراً، وبمجرد مخالفته
فاسقاً. ومنها ما هو محل نظر واجتهاد،وهو الذي وقع الخلاف بين علماء الأمة،
تبعاً للاختلاف في رواية النصوص أو في دلالتها، أو لعدم العلم بالنص والرجوع في
أخذ الحكم إلى القياس مثلاً وكما قلنا أنهم كانوا متفقين على أن من خالف مضمون
نص لم يبلغه أو معنى نص غير قطعي الدلالة لأنه لم يظهر له هذا المعنى، وبذل
جهده في استبانة مراد الشارع في مسألته، فترجح عنده فيها شيء فعمل به مخطئاً
فهو معذور.(4)
5- العمل الواحد يكون مستحباً فعله تارة، وتركه تارة، باعتبار ما يترجح
من مصلحة فعله وتركه بحسب الأدلة الشرعية.
والمسلم قد يترك المستحب إذا كان في فعله فساد راجح على مصلحة كما ترك النبي
صلى الله عليه وسلم بناء البيت على قواعد إبراهيم.(5)
6- قد يكون المرجوح أرجح للمصلحة الراجحة، كما يكون ترك الراجح أرجح
أحياناً لمصلحة راجحة. وهو واقع في عامة الأعمال، فإن العمل الذي هو في جنسه
أفضل في بعض المواطن، قد يكون في مواطن أخرى غيره أفضل منه، كما أن جنس الصلاة
أفضل من جنس القراءة، وجنس القراءة أفضل من جنس الذكر، وجنس الذكر أفضل من جنس
الدعاء، ثم الصلاة بعد الفجر والعصر منهي عنها، والقراءة والدعاء والذكر أفضل
منها في تلك الأوقات، وكذلك القراءة في الركوع والسجود منهي عنها، والذكر هناك
أفضل منها، والدعاء في آخر الصلاة بعد التشهد أفضل من الذكر.(6)
7- وقد يكون العمل المفضول أفضل بحسب حال الشخص المعين لكونه عاجزاً عن
الأفضل، أو لكون محبته واهتمامه ورغبته وانتفاعه بالمفضول أكثر، فيكون أفضل في
حقه، لما يقترن به من مزيد علمه، وحبه وإرادته وانتفاعه. كما أن المريض ينتفع
بالدواء الذي يشتهيه بما لا ينتفع بما لا يشتهيه، وإن كان جنس ذلك أفضل.(7)
هذه بعض القواعد المهمة في الخلاف، والتي لو وقفنا معها لكان اختلافنا اختلاف
تنوع لا اختلاف تضاد، ولأُثْري الفكر والعقل بشتى الآراء دون تعصب ولاعداء ولا
غلق لهذا العقل، هذه المنحه التي وهبها الله للإنسان.