ان الحمد لله ، نحمده و نستعينه ، و نستغفره ، و نعوذ بالله
من شرور انفسنا و من سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له
و من يضلل فلا هادي له ، و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، و أن محمدا
عبده و رسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه و من تبعهم
بإحسان الى يوم الديـــن ، أما بعد ...
إن الحديث عن صبره عليه الصلاة والسلام ، هو في حقيقة الأمر حديث عن حياته
كلها ، وعن سيرته بجميع تفاصيلها وأحداثها ، فحياته صلى الله عليه وسلم
كلها صبر ومصابرة ، وجهاد ومجاهدة ، ولم يزل عليه الصلاة والسلام في جهد
دؤوب ، وعمل متواصل ، وصبرٍ لا ينقطع ، منذ أن نزلت عليه أول آية ، وحتى
آخر لحظة في حياته .
لقد عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيعة
ما سيلقاه في هذا الطريق ، منذ اللحظة الأولى لبعثته ، وبعد أول لقاء
بالملك ، حين ذهبت به خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل ، فقال له ورقة
: يا ليتني كنت حياً إذ يخرجك قومك ، فقال له عليه الصلاة والسلام : ( أو
مخرجي هم ؟ ) ، قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي . فوطن
نفسه منذ البداية على تحمل الصد والإيذاء والكيد والعداوة .
ومن
المواقف التي يتجلّى فيها صبره عليه الصلاة والسلام ، ما تعرض له من أذى
جسدي من قومه وأهله وعشيرته وهو بمكة يبلغ رسالة ربه ، ومن ذلك ما جاء عند
البخاري أن عروة بن الزبير سأل عبد الله بن عمرو بن العاص عن أشد شيء صنعه
المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : بينا النبي صلى الله عليه
وسلم يصلي في حجر الكعبة ، إذ أقبل عقبة بن أبي معيط ، فوضع ثوبه في عنقه
فخنقه خنقا شديدا ، فأقبل أبو بكر حتى أخذ بمنكبه ، ودفعه عن النبي صلى
الله عليه وسلم ، وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ؟ .
وفي
يوم من الأيام كان عليه الصلاة والسلام يصلي عند البيت ، وأبو جهل وأصحابٌ
له جلوس ، فقال بعضهم لبعض: أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان فيضعه على ظهر
محمد إذا سجد ، فانبعث أشقى القوم فجاء به ، فانتظر حتى سجد النبي صلى الله
عليه وسلم فوضعه على ظهره بين كتفيه ، فجعلوا يضحكون ويميل بعضهم على بعض ،
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه ، حتى جاءته فاطمة فطرحت
عن ظهره الأذى .
وأشد من ذلك ، الأذى النفسي المتمثّل في ردّ
دعوته وتكذيبه ، واتهامه بأنه كاهن وشاعر ومجنون وساحر ، وادعاء أن ما أتى
به من آيات ما هي إلا أساطير الأولين ، ومن ذلك ما قاله أبوجهل مستهزئا :
اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا
بعذاب أليم فنزلت : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم
وهم يستغفرون وما لهم أن لا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام } (
الأنفال : 33 – 34 ) ، وروى البخاري في صحيحه أن امرأة من المشركين جاءت
إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك
قد تركك ؛ لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثا . فأنزل الله عز وجل : {
والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى } ( الضحى : 1 – 3 ) ، وكان أبو
لهب يتْبَع النبي صلى الله عليه وسلم في مجامع الناس وأسواقهم ، ويكذّبه ،
بينما كانت امرأته أم جميل تجمع الحطب والشوك وتلقيه في طريقه .
وقد حدَّث صلى الله عليه وسلم عن موقف من مواقف الأسى والكرب ، حين يبلغ
بالإنسان الحد أن ينسى نفسه وهو في غيبوبة الهم والحزن ، وذلك بعد أن ضاقت
عليه مكة فخرج إلى الطائف يطلب النصرة ، فقد روى البخاري ومسلم أن عائشة
رضي الله عنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقالت : هل أتى عليك
يوم كان أشد من يوم أحد ؟ قال : ( لقد لقيت من قومك ما لقيت ، وكان أشد ما
لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل ابن عبد كلال فلم
يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلا وأنا
بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي ، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها
جبريل ، فناداني فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد
بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، فناداني ملك الجبال فسلم علي ،
ثم قال : يا محمد فقال : إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين ، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا
يشرك به شيئا ) .
ويبلغ الأذى قمته فيُحاصر صلى الله عليه وسلم
ثلاث سنوات في شعب أبي طالب ، وتهجم عليه الأحزان المتوالية ، فيفقد زوجته
خديجة التي كانت خير ناصر ومعين بعد الله عز وجل ، ثم يفاجأ بموت عمه الذي
كان يحوطه ويدافع عنه ، ويضاعف حزنه أنه مات على الكفر ، ثم يخرج من بلده
مهاجراً بعد عدة محاولات لقتله واغتياله ، وفي المدينة يبدأ عهداً جديدا
ًمن الصبر والتضحية ، ، وحياة فيها الكثير من الجهد والشدة ، حتى جاع
وافتقر ، وربط على بطنه الحجر ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( قد
أُخفت في الله وما يخاف أحد ، ولقد أوذيت في الله وما يُؤذى أحد ، ولقد أتت
عليّ ثلاثون من بين يوم وليلة ومالي ول بلال طعامٌ يأكله ذو كبد ، إلا شيء
يواريه إبط بلال ) رواه الترمذي .
وما بدر وأحد والأحزاب وتبوك
وحنين وغيرها من غزواته وسراياه التي بلغت مائة غزوة وسرية ، إلا صفحات
مضيئة من صبره وجهاده صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن يخرج من غزوة إلا ويدخل
في أخرى ، حتى شُجَّ وجهه الشريف ، وكسرت رباعيته ، واتهم في عرضه ، ولحقه
الأذى من المنافقين وجهلة الأعراب ، بل روى البخاري عن عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه أنه قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة ، فقال رجل
من الأنصار : والله ما أراد محمد بهذا وجه الله ، قال ابن مسعود : فأتيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فتمعر وجهه وقال : ( رحم الله موسى
، لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر ) .
ومن المواطن التي صبر فيها
النبي صلى الله عليه وسلم ، أيّام موت أولاده وبناته ، حيث كان له من
الذرية سبعةٌ ، توالى موتهم واحداً تلو الآخر حتى لم يبق منهم إلا فاطمة
رضي الله عنها ، فما وهن ولا لان ، ولكن صبر صبراً جميلاً ، حتى أُثر عنه
يوم موت ولده إبراهيم قوله: ( إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما
يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون ) .
ولم يكن صبر
النبي صلى الله عليه وسلم مقتصراً على الأذى والابتلاء ، بل شمل صبره على
طاعة الله سبحانه وتعالى حيث أمره ربّه بذلك في قوله : { فاصبر كما صبر
أولو العزم من الرسل } ( الأحقاف : 35 ) ، وقوله : { وأمر أهلك بالصلاة
واصطبر عليها } ( طه : 132 ) ، فكان يجتهد في العبادة والطاعة حتى تتفطّر
قدماه من طول القيام ، ويكثر من الصيام والذكر وغيرها من العبادات ، وإذا
وكان شعاره في ذلك : أفلا أكون عبدا شكورا ؟
لقد كانت وقائع سيرته
صلى الله عليه وسلم مدرسة للصابرين ، يستلهمون منها حلاوة الصبر ، وبرد
اليقين ، ولذة الابتلاء في سبيل الله تعالى