ما من شكٍّ أنّ الله تعالى قد جعل ـ بمقتضى اتصافه بالرحمة الواسعة ـ
لعباده جملة من الأسباب والوسائل تكون لهم علماً ودليلاً للوصول إليه
والاقتراب من مقام قدسه, وقال للناس: (ابتغوا إليه الوسيلة).
اسلام تایمز
مؤلف : حسین خضر
عظمة القرآن الكريم
وقد
يتيه البشر في تحديد الوسائل الإلهية ويضلون عنها وهم يحسبون أنهم يحسنون
صنعاً, فلذلك أكمل تعالى إمداد الخلق بأسباب البصيرة والمعرفة ليعبدوا الله
على بينة من أمرهم فأرسل لهم (رسولاً منهم) يستمد صفاته من الله وينبئ
عنه, ويحمل منه الرسائل والتعليمات إلى البشر كي يستقيم أمرهم, ويوضح
المسالك وينير الطريق ويرشد إلى جاد الصواب, وكيف لا! وهو بالمؤمنين رؤوف
رحيم .
ثم أفصح عن هذه
الوسيلة بكل انسياب وأمانة قائلاً: (إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من
الآخر, الثقل الأكبر القرآن حبل الله الممدود, والثقل الأصغر عترتي أهل
بيتي) .
ولجهل الإنسان
بهذا القرآن العظيم وبأهدافه وأبعاده وما يرمي إليه, إذ هو عدو ما يجعل,
فهو لا يلتفت إليه ولا يقترب منه ولا يحتمله, بل قد ينفر منه في كثير من
الأحوال فلا يطرق سمعه إلاّ في أجواء الموت وأثناء الجنائز, لذلك فهو محروم
من أنوار القرآن وبركاته ومفتقر إلى نفائس مخزوناته
.
فما لم نقرأ القرآن ونقاربه فلن نعرفه ولن نعرف
منطقه, وماذا يفعل في القلوب والنفوس, لذلك كان ينبغي أن نبدأ بقراءة
القرآن قبل كلّ شيء, والتعرف عليه وعلى منطقه وطريقة خطابه لنعلم ما يقول,
وماذا يريد, وكيف يخاطب, وأين يحدد التكليف, ومتى يعيّن الواجبات, وكيف
يتعامل مع كافة شؤون الحياة.
وحيث كان لكل شيء أدبٌ, فكذلك قراءة
القرآن, لها آدابها وسننها, وأهمها وأولها مطلقاً معرفة حقيقته العظيمة,
وكشف الأستار والحجب عن موقعيته وشأنيته ليظهر ناصعاً وضّاءً يشع نوراً
وضياءً, قال تعالى: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون)
.
إذاً, فللقرآن حقيقة نورانية عند الله تعالى,
وصورة أخرى في عالم الملكوت, لأن هذه الحقائق المرتبطة بالعوالم العلية غير
متيسرة الظهور والرؤية للقلوب المستقرة في (أسفل سافلين), وهي الدنيا,
ولأن الرحمة الإلهية واسعة لا حدود لها, فقد جعل هذه الوسيلة النورانية
بمتناول أيدي البشر, فأنزل القرآن على هيئة حروف وكلمات لتتيسر قراءته لكل
الناس, فلا يحتجب عن أحد منهم إلاّ بمقدار ما يحتجب هو وقلبه عن القرآن,
قال تعالى: (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور), فحدّد
أهداف القرآن بإخراج الناس من الظلمات إلى النور وهو وجه الله تعالى
المتجلي في كل شيء .
إنّ
عظمة كل كلام وكل كتاب تتحقق عادةً: إمّا بعظمة قائله أو كاتبه, وإما
بعظمة المرسَل إليه وحامله, وإما بعظمة شارحه ومبيّنه, وإما بعظمة حافظه
وحارسه, وإما بعظمة وقت إرساله وكيفية ووسيلة الإرسال.
فأمّا عظمة قائله فهو الله المطلق العظمة والقدرة, قال تعالى: (وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم).
وأمّا
عظمة رسول الوحي والواسطة, فهو جبرائيل الأمين (ع), الملك المقرّب والروح
الأعظم الذي يتصل بروح الرسول الأعظم (ص) ويلقي في قلبه الوحي وكلمات الله
تعالى, وهو رئيس الملائكة والموكّل بالعلم والحكمة, ومنزّل الأرزاق
المعنوية والأطعمة الروحية .
وأمّا
عظمة المرسل إليه ومتحمله, فهو قلب التقي والإنسان الأكمل, ومرقى الكمال
البشري المطلق, مهبط الوحي والرحمة محمد المصطفى (ص), الذي لم يجعل الله
بينه وبينه حجاباً .
وهو صاحب
النبوة الخاتمة, وأكرم البشر, وسيد الموجودات, عجزت كلمات الخلق عن وصفه
والوقوف على قدره وعظمته, ومن ثمّ وصفه تعالى في كتابه: (وإنك لعلى خلق
عظيم) .
وأمّا عظمة شارحه
ومبيّنه: فهم الصفوة المعصومة من أهل بيت النبوة, والنخبة المنزّهة الذين
أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً, وحسبهم ما وصفهم به أمير المؤمنين
(ع) بقوله: (لا يقاس بآل محمد (ص) من هذه الأمة أحد, عترته خير العتر,
وشجرته خير الشجر, لها فروع طوال, وثمر لا ينال. هم عيش العلم, وموت الجهل,
فيهم كرائم القرآن, وكنوز الرحمن, وهم أساس الدين, وعماد اليقين
.
وأمّا عظمة حافظه وحارسه: فحسبنا قول ربنا: (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون) .
ذلك
أن القرآن لمّا كان معجزةً الإسلام, وكان الإسلام هو الرسالة الخاتمة
والباقية إلى يوم القيامة, لا جرم وجب أن تبقى معجزته مستمرة باستمراره,
لأنها الدليل عليه والمرشدة والمنبهة إلى سبيله, ومن هنا نعرف السر في
انتهاء معجزات الرسالات السابقة؛ لأنها آنية, ولم يكن المطلوب منها حكم
البشر, بل كانت تختص بأقوام ومجتمعات محددة, وأدّت دورها في إثبات رسالتها
وأحقية صاحبها المرسل, في حين أنّ الإسلام هو شريعة الله التي ستحكم الدنيا
حتى زوالها .
من هنا كان
لمعجزة النبي (ص) خصوصية البقاء والحفظ, والسلامة من التحريف والنقص
والزيادة, وهذا الأمر إنّما تمّ برعاية الله وعنايته بكتابه العزيز, من
خلال صفوة من خلقه جعلهم عيناً ساهرة على حفظ الشريعة وصحيفتها المباركة,
بدءاً من الأئمة (ع) مروراً بالعلماء الأعلام رضوان الله تعالى عليهم
أجمعين وانتهاءاً بخاتم آل محمد القائم المهدي (عج)
.
وأمّا عظمة زمان النزول: فلا ريب أنّ لبعض الأوقات
والأزمنة خصوصية ملأها الله تعالى بالفضل وكرّمها وشرّفها على غيرها, وكرّم
وشرّف من كان عالماً بها, عارفاً بحرمتها وأقام حقها, كما في أداء الصلاة
عند وقتها حيث يرشد الإمام الخميني (قده) إلى أهمية وفضل هذا الوقت المبارك
فيقول: (أدّوا الصلاة الخمس في أوقاتها, وانتخبوا وقت فضيلتها, فإنّ فيها
نوراً ليس في غيرها من الأوقات ).
إذاً,
الصلاة في أول الوقت نور, وهذا النور مفقود بعد ساعة من الزمن, ومن صلّى
أول الوقت حصّل هذا النور, وفاز بالفضل العظيم
.
وعلى هذا الأساس نجد التأكيد على الاهتمام ببعض الأوقات
وتعظيمها والإتيان بأعمالها, ليحوز الإنسان على فضلها وبركاتها لفقره
الشديد إليها, (إني لما أنزلت إليّ من خير فقير) ونلحظ ذلك التعظيم أوقات
الصلوات, وليلة الجمعة ويومها, وليلة عرفة ويومها, وشهر رمضان وغيرها من
الأوقات حتى نصل إلى أشرفها وأعظمها على الإطلاق, وهي ليلة القدر, زمان
نزول آيات الوحي من لدن الرحمان إلى السماء الدنيا.
وقد جعل الله
تعالى لهذه الليلة فضلاً عظيماً ضمّنه في كلّ لحظاتها وثوانيها, فمن باشرها
وأحياها فاز بكل الفضل, ومن نام عنها خسر كل الفضل, ومن أحيا جزءاً منها
فقد اقتطع جزءاً من فضلها, والعاقل لا يفرط بالفضل العظيم, مقابل راحة ليلة
واحدة .
ولشدّ الإنسان إلى
أهميتها يخاطب تعالى عباده بالقول: إني قد جعلت هذه الليلة توازي عمركم
بطوله, والعمل فيها يعدل أعمال سنين حياتكم, فهي (خير من ألف شهر) وألف شهر
تساوي 83 سنة, أي بمقدار حياة إنسان استوفى كل عمره, فللننظر ماذا نفعل في
تلك الليلة..