قال تعالى في قصة زيد بن حارثة {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً}فقد أخطأ بعض المفسرين في تفسيرها وقال إن معناها أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأي زينب أعجبته وتمنَّي أن يطلقها زيد وأخفي في نفسه هذه الأمنية وأنه كان يأمر زيداً بإمساكها مجاملةً ولو كان هذا صحيحاً لكان فيه أعظم الحرج وما لا يليق به مِنْ مَدِّ عينيه لما نُهِيَ عنه من زهرة الحياة الدنيا ولكان هذا نفس الحسد المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأنقياء فكيف بسيِّد الأنبياء؟
قال القشيري: وهذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحقِّ النبي صلى الله عليه وسلم وبفضله وكيف يقال: رآها وأعجبته؟ وهي بنت عمته ولم يزل يراها منذ ولدت ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم وهو زوَّجها لزيد فلو أرادها صلى الله عليه وسلم لاصطفاها لنفسه قبل زيد ولفرحتْ بذلك بما لا مزيد عليه خصوصاً وأنَّها ما تزوَّجتْ بزيدٍ إلاَّ طاعةً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والحقُّ الذي نَدِينُ الله عليه هو أن الله كان قد أعلم نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه بعد زيد لحكمة تشريعية أشارت إليها الآية في آخرها
وكان زيد يشكو كثيراً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عدم استقراره وارتياحه للزواج بها وذلك لوجود فوارق عديدة بينهما تجعل الائتلاف والانسجام بعيداً فكان كلما شكاها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} وأخفي منه في نفسه ما أعلَمَهُ الله به مِنْ أنه سيتزوجها مما الله مبديه ومُظهره بتمام التزوج وطلاق زيد لها فهذا منه صلى الله عليه وسلم تمام الأدب والذوق وكمال الإحساس في مراعاة شعور الآخرين مع أنه لو قال: إن الله أخبرني بأن زينب ستكون زوجة لي بعدك لما كان عليه في ذلك حرج ولذا فإن الله هنا يمتدح فيه هذه المنقبة ويثني عليه موقفه هذا وهذا معني قوله تعالي {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}
ويؤيد هذا ما جاء عن الزهري قال (نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يُعْلِمُهُ أن الله يزوِّجه زينب بنت جحش فذلك الذي أخفي في نفسه) ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} أي: لابد لك أن تتزوجها ويوضح هذا أن الله لم يُبْدِ من أمره معها غير زواجه لها فَدَلَّ أنه الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم مما كان أَعْلَمًهُ به تعالي والحكمة في زواجه بها إزالة حُرمة التَّبني وإبطال سُنَّته لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد تبنَّي زيداً حتي صار يدعي (زيدٌ بنُ مُحَمَّد) وقد أبطل الله هذه العادة بقوله {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ} أبطلها عمليًّا بأمره صلى الله عليه وسلم بالتزوج بها وإلي هذا أشار سبحانه وتعالي في آخر الآية بقوله {لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً}
فإن قيل:فما الفائدة في أمره صلى الله عليه وسلم لزيد بإمساكها ؟ فالجواب: أنه وإن كان الله قد أعلَمَ نبيَّه بأنها ستكون زوجته إلا أن الله لم يأذن بطلاقها في ذلك الوقت فلذلك كان يأمره بإمساكها حتي يأتي الوقت الذي قدَّر الله فيه الطلاق وإن قيل: فما معني قوله تعالى {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} ؟ فالجواب: أن الخشية هنا معناها الاستحياء وليس الخوف أي يستحي منهم أن يقولوا تزوَّج زوجة ابنه وأن خشيته صلى الله عليه وسلم كانت من أرجاف المنافقين واليهود وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوَّج زوجة ابنه بعد نَهْيِهِ عن نكاح حلائل الأبناء كما كان فعاتبه الله على هذا ونزَّهه عن الالتفات إليهم فيما أحلَّه له كما عاتبه الله على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ } كذلك قوله له هاهنا: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ} وقد روي عن الحسن وعائشة (لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لكتم هذه الآية لما فيها من عتبه وإبداء لما أخفاه)