عن أبي ذر ومعاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن) رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
هذا الحديث أصل عظيم جامع في باب الوصايا والإرشاد وقد أوصى فيه النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث وصايا. وفيه مسائل:
الأولى: في الحديث الوصية بالتقوى وهي وصية عظيمة جامعة لحقوق الله وحقوق الخلق. والتقوى وصية الله للأولين والآخرين قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ). وقال تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). والمعنى اتقوا سخطه وغضبه وهو أعظم ما يتقى. وقال تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ). وحقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين من يخافه ويحذره وقاية تقيه منه فتقوى العبد لربه أن يجعل بينه وبين غضب الله وسخطه وقاية من الأقوال والأفعال تقيه من ذلك. ويدخل في التقوى الكاملة فعل الواجبات وترك المحرمات والشبهات وفعل المندوبات وترك المكروهات وذلك أعلى درجات التقوى. قال طلق بن حبيب: (التقوى أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله). وقال عمر بن عبد العزيز: (ليس تقوى الله بصيام النهار ولا بقيام الليل والتخليط فيما بين ذلك ولكن تقوى الله ترك ما حرم الله وأداء ما افترض الله فمن رزق بعد ذلك خيرا فهو خير إلى خير). وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرا على سرية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا. وكان يكثر من وصيته لأمته في المجامع العامة والمناسبات الخاصة. ولم يزل السلف يتواصون بها. كان أبوبكر رضي الله عنه يقول في خطبته: (أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله وأن تثنوا عليه بما هو أهله وأن تخلطوا الرغبة بالرهبة وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله أثنى على زكريا وعلى أهل بيته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ).
الثانية: كمال التقوى وتمامها أن يذر العبد ما لا ريب فيه خشية الوقوع مما به ريب فيجعل شيئا من المباح حما وسياجا للحرام. قال أبو الدرداء: (تمام التقوى أن يتقي الله العبد حتى يتقيه مثقال ذرة حتى يترك بعض ما يرى أنه حلال خشية أن يكون حراما يكون حجابا بينه وبين الحرام). وقال الحسن: (ما زالت التقوى بالمتقين حتى تركوا كثيرا من الحلال خشية الحرام). وفي الحديث: (لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما لا باس به حذرا مما به بأس). وهذا يشمل سائر أبواب الدين باب الأموال والفروج ومعاملة الخلق والولايات والاتباع والابتداع وغير ذلك من الأمور. ومن أعظم ما يعين على ذلك طلب العلم والتفقه في الدين لأن أصل التقوى أن يعلم ما يتقى ثم يتقي ولذلك فإن كثيرا من العامة يجترحون الكبائر ويقعون في المعاملات المشكلة ثم بعد ذلك يسألون ويستفتون أهل العلم.
الثالثة: قوله صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت). مراده في السر والعلانية حيث يراه الناس وحيث لا يرونه وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: (أسألك خشيتك في الغيب والشهادة). رواه النسائي. ويروى في البزار أنه قال لمعاذ: (استحيي من الله استحياء رجل ذي هيبة من أهلك). وهذا هو السبب الموجب لخشية الله في السر فإن من علم أن الله يراه حيث كان وأنه مطلع على باطنه وظاهره وسره وعلانيته استحضر ذلك في خلواته وأوجب له ذلك ترك المعاصي في السر. قال بعض السلف لأصحابه: (زهدنا الله وإياكم في الحرام بزهد من قدر عليه في الخلوة فعلم أن الله يراه فتركه من خشيته). وقال الشافعي: (أعز الأشياء ثلاثة الجود من قلة والورع في خلوة وكلمة الحق عند من يرجى ويخاف). وكان الإمام أحمد ينشد:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل --- خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة --- ولا أن ما يخفى عليه يغيب
وتقوى الله في السر علامة على كمال الإيمان وله تأثير عظيم في انشراح الصدر ونور الوجه وراحة البال وإلقاء الله لصاحبه الثناء والمحبة في قلوب المؤمنين. قال ابن مسعود: (ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله ردائها علانية إن خيرا فخير وإن شرا فشر). وقال سليمان التيمي: (إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته). فالسعيد من أصلح ما بينه وبين الله فإن من فعل ذلك أصلح الله ما بينه وبين الناس وألقى محبته وثناءه على لسان الخلق وجعل له القبول في الأرض. والشقي من أفسد ما بينه وبين الله ومن فعل ذلك أفسد الله ما بينه وبين الناس وألقى بغضه وذمه على لسان الخلق وجعل له الجفاء في الأرض.
الرابعة: لما كان العبد قد يقع منه أحيتانا تفريط في التقوى وتقصير في طاعة الله أو انتهاك ما حرم الله لطبعه وغفلته وغلبة الشيطان شرع الله له وأمره فعل ما يمحو هذه السيئات بفعل الحسنات كما قال تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ). وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلا أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل هذه له خاصة قال بل للناس عامة). وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أذنب عبد ذنبا فقال ربي إني عملت ذنبا فاغفر لي فقال الله علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي ثم أذنب ذنبا آخر ..إلى أن قال في الرابعة فليعمل ما شاء). يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب استغفر والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدا. وقد أخبر الله أن المتقين قد تقع منهم أحيانا الكبائر وهي الفواحش والصغائر وهي ظلم النفس لكنهم لا يصرون عليها بل يذكرون الله عقب معصيتهم ويستغفرونه ويتوبون إليه وتوبتهم هي ترك الإصرار وقد قال الله عز وجل في معرض الثناء عليهم: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ). يعني ذكروا عظمته وشدة بطشه وعذابه فاستغفروا من ذنوبهم ولم يستمروا على فعل المعصية.
وقوله: (أتبع الحسنة السيئة تمحها). ما المراد بالحسنة. فيها قولان:
الأول- يراد بالحسنة هنا التوبة وقد ورد ذلك صريحا في حديث مرسل. وقد ورد هذا المعنى كثيرا في كتاب الله. وظاهر هذه النصوص تدل على أن من تاب إلى الله توبة نصوحا واجتمعت شروط التوبة في حقه فإنه يقطع بقبول توبته كما يقطع بقبول إسلام الكافر وهذا قول جمهور العلماء وهو الصحيح.
الثاني- يراد بالحسنة مطلق العمل الصالح ما هو أعم من التوبة. وقد دلت على ذلك الآيات والأحاديث المتظافرة. والصحيح أن الحسنة في الحديث تشمل كلا القولين فهي تعم كل عمل صالح يكفر الخطايا والتوبة داخلة في ذلك.
الخامسة: للخطايا مكفرات دلت النصوص الشرعية على كثرتها وتنوعها ومن ذلك:
(1) الوضوء: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ فأحسن الوضوء خرجت خطاياه من جسده حتى تخرج من تحت أظفاره). رواه مسلم.
(2) الصلاة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء قالوا لا يبقى من درنه شيء قال فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بهم الخطايا). متفق عليه.
(3) (4)المشي إلى الصلاة وانتظارها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قالوا بلى يا رسول الله قال إسباغ الوضوء على المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط).
(5) الصوم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). متفق عليه. وقد ثبت أن صوم يوم عاشوراء وعرفة يكفران الذنوب في الماضي والحاضر.
(6) القيام: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه). متفق عليه.
(7) العمرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة). رواه مسلم.
(
الحج: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدنه أمه). متفق عليه.
(9) الصدقة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار). رواه الترمذي.
(10) الذكر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر). متفق عليه.
(11) الصبر على المصائب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه). رواه البخاري.
السادسة: اختلف العلماء: هل تكفر الأعمال الصالحة الكبائر والصغائر أم لا تكفر سوى الصغائر فقال بعضهم تكفر الكبائر والصغائر وهو قول ضعيف لا يلتفت إليه. وذهب أكثر العلماء إلى أنها لا تكفر سوى الصغائر أما الكبائر فلا بد لها من توبة خاصة لأن الله أمر العباد بالتوبة وجعل من لم يتب ظالما ولأن الشارع رتب كفارات وحدود لبعض الكبائر ولو كانت مجرد الأعمال الصالحة تكفرها لما شرع ذلك ولقول الله تعالى: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا). ويفسر الآية قول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر). متفق عليه. وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله لكثرة الأدلة عليه وموافقته لقواعد الشرع ومقاصده ولو كانت الكبائر تكفر بفعل الفرائض لم يبق لأحد ذنب يدخل به النار إذا أتى بالفرائض وهذا يشبه قول المرجئة وهو باطل. فعلى المسلم المتلطخ بالكبائر أن لا يغتر بعمله الصالح ويوقن أن هذه الكبائر تتقحم به النار في الآخرة ما لم يتب منها ويقلع عنها في الدنيا وليعلم أن الموقف خطير بين يدي الرب الجليل.
السابعة: الخلق الحسن من خصال التقوى ولا تتم التقوى إلا به وإنما أفرده النبي صلى الله عليه وسلم بالذكر للحاجة إلى بيانه فإن كثيرا من الناس يظن أن التقوى هي القيام بحق الله دون حقوق عباده لذلك يقصر كثير من الصالحين في حقوق الخلق أو يهملونها بالكلية لاشتغالهم بحقوق الله فجمع النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ في وصيته بين حق الله وحق عباده. وقد تكاثرت النصوص على فضل حسن الخلق والأمر به كما قال تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً). وقال تعالى: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاس). وجماع حسن الخلق بذل الندى وكف الأذى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق). رواه مسلم. وقال ابن المبارك: (هو بسط الوجه وبذل المعروف وكف الأذى). وقال الشعبي: (حسن الخلق البذل والعطية والبشر الحسن). ولحسن الخلق أنواع كثيرة تعود إلى معناه منها: التواضع والجود والحلم والأناة والرفق والوفاء والصدق والنصيحة وأداء الأمانة والستر والإصلاح والرحمة وبر الوالدين والصلة والشجاعة والإيثار والعفو والبشر وطيب الكلام والعدل. ولحسن الخلق فوائد جمة ومزايا عظيمة: دخول الجنة وتثقيل ميزان العبد وكمال الإيمان وقرب المجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة وبلوغ منزلة رفيعة في الدين وزيادة العمر وبسط الرزق وكشف الكرب واندفاع النقم وكسب محبة الخلق في الدنيا.
الثامنة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا ما ترك خيرا إلا تمثل به وما ترك سوءا إلا هجره وكان قدوة حسنة في جميع أبواب الخير وخصال الإيمان كما قال: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق). وقال أنس (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقا) متفق عليه. وقد أثنى عليه الله سبحانه بقوله ( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ). وكان يتمثل أخلاق القرآن الفاضلة كما قالت عائشة واصفة خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن). وكان كلامه وألفاظه من أطيب الكلام كما قال عبد الله بن عمرو بن العاص: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا) متفق عليه. وكان رفيقا بأهله وولده كما قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي). رواه الترمذي. وكان رفيقا بخادمه كما قال أنس: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أفا قط ولا قال لي لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا). رواه مسلم. وكان حليما بأصحابه وكان متواضعا غاية التواضع وكان زاهدا في حطام الدنيا لا ينازع الناس في دنياهم وحظوظهم وكان متفانيا في هداية الخلق لربهم وكان رفيقا عادلا مع الكفار وكان رفيقا في إرشاد الجاهل والفاسق والتائب إلا إذا اقتضت المصلحة في التعنيف عنف وكان لا يغضب لنفسه فإذا انتهكت محارم الله غضب لله ونصرة لدينه والحاصل أن الله حباه وجبله ووفقه لمكارم الأخلاق ومحاسن الصفات فينبغي للمسلمين أن يتخذوا حياته وشمائله وفضائله مدرسة وقدوة حسنة للتربية على حسن الخلق ونشرها في الأجيال والمراكز التعليمية والدورات التدريبية. فأسأل الله أن يرزقنا الإخلاص في محبته واتباعه في هديه ظاهرا وباطنا ونصرة دينه والاجتهاد في نشر سنته.