من أسرار البيان القرآني ..

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

من الدلالات الجدية في القرآن دلالة كلمة الدنيا وتركيب الحياة الدنيا، ومن عجب انّ القرآن الكريم فرق في الدلالة بين التركيبين، فدلالة الدنيا تختلف عن دلالة الحياة الدنيا، فما دلالة الحياة الدنيا، فما دلالة كل منهما؟
وردت كلمة الدنيا في القرآن 115 مرة، وكلمة الآخرة كذلك بنفس المقدار.
ورد تعبير الحياة الدنيا في ثمان وستين آية ولم يرد تعبير الحياة الآخرة ابدا.
ورد تعبير الدار الآخرة في تسع آيات، ولم يرد تعبير الدار ابدا.
وردت تعبيرات ثواب الآخرة، وعذاب الآخرة، ولقاء الآخرة، وحرث الآخرة، ولم يرد مثل التعبير للدنيا؟
إنّ الدنيا عندما ترد هكذا مفردة في القرآن الكريم تكون علما على هذه الحياة التي نحياها في هذه الأرض، وهي كلمة تدل على هذه الحياة دون ان تضفي أي ظلال على سلوك الإنسان في الدنيا والآخرة، إذن هما علمان على شيئين متقابلين على فترتين مختلفتين، على حياتين منفصلة إحداهما عن الأخرى.
وقد اصبحت كلمة الدنيا في استعمال الناس تعني الأرض، وكلمة الآخرة تعني الحياة الأخرى.
ما معنى الدنيا؟ ولماذا ورد تعبير الحياة الدنيا إلى جانب الدنيا منفردة وما معنى الآخرة؟
الدنيا تقابل الآخرة في القرآن الكريم، وإن كلا منهما علم على حياة منفصلة عن الأخرى، وقد استخدم القرآن الكريم الدنيا في آيات، وتعبير الحياة الدنيا في آيات أُخرى، فما هو المعنى وما هو المقصود؟
الدنيا صفة على صيغة فعلى، وهي مؤنث مثل كبرى، واصغر، وصغرى، واعظم وعظمى وغيرها، وهي مشتقة من دنا الشيء يدنو دنوا بمعنى قرب.
الدنيا عندما ترد وحدها تعني مجرد الحياة على الأرض، أي أن هذه الحياة التي تحياها هذه المدة التي نعيشها دون أي ظلال أو ايحاءات، (وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصابِيحَ...).
أمّا الحياة الدنيا فتعني في آيات القرآن استغراق الإنسان في هذه الحياة وانغماسه فيها، فكأن تعبير الحياة الدنيا صورة لانصراف الانسان عن طاعة ربه وغفلته عن الآخرة.
قال تعالى (زُيِّن للذينَ كفروا الحياةُ الدنيا ويسخَرُونَ من الذين آمَنُوا) (البقرة/ 212)، وهناك آيات اُخر شبيهة لهذا المعنى وهي واضحة الدلالة على معانيها، فالذين كفروا مفتونون وهم يحبونها دون الآخرة. فهو يصور قصر نظر هؤلاء، وهكذا نعرف ان كلمة الدنيا وحدها لها معنى آخر غير ما بينته كلمة الحياة الدنيا، وهذا شاهد على ان كل كلمة قد وضعت في معناها المناسب.
مر بنا ان تعبير الحياة الدنيا ورد في ثمان وستين آية ولم يرد تعبير الحياة الآخرة ابدا، مع انّ القرآن الكريم يجعل كلمة الدنيا مقابلة للآخرة، وقد مرّ بنا ان تعبير الدار الآخرة ورد في تسع آيات من القرآن، ولم يرد تعبير الحياة الآخرة ابدا، فهل لهذا من دلالة؟
انّ له دلالة عظيمة فما هي الحياة الدنيا؟ ولماذا لم يرد في القرآن تعبير الحياة الآخرة وما الدار الآخرة؟ ولماذا لم يرد في القرآن الكريم تعبير الدنيا الآخرة؟
إنّ الحياة هي النمو والاستقرار ما شاء الله للمرء أن يدوم ويبقى في هذه الدنيا، ثمّ يتبعها الموت فلاحياة، وكلمة الحياة تقابل الموت، والموت ضد الحياة، ولذا فإنّ الحياة الدنيا حياة مؤقتة لابدّ لها من زوال طال الزمن ام قصر، وليس كذلك الآخرة ولذا قال تعالى: الحياة الدنيا، ولم يقل الحياة الآخرة، الحياة الدنيا زائلة، والحياة عند الله في الآخرة خلود لا يزول.
فالدار في اللغة المحل الذي يجمع الأبناء، والساحة وهي المنزل المسكون وهل البلد وكلمة الدار تحمل معنى الاستقرار والثبات والبقاء والإنسان في حياته الاجتماعية يشعر انه لا استقرار له إلا في داره. فالدار عنوان الثبات والدوام ولذا قال تعالى الدار الآخرة لأنّها دار إلى الدوام والاستقرار والثبات والخلود، ولم يقل في القرآن الدار الدنيا لأنّها زائلة، يقول تعالى: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) (غافر/ 39)، وقال: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأرْضِ وَلا فَسَادًا...) (القصص/ 83).