من هو العبد الخفي الذي أحبه الله تعالى؟
لربما أنهم الذين عرفوا ربهم ، فأحبوه وأحبهم وحرصوا أن يكون بينهم وبين الله أسرار ، والله سبحانه يعلم إسرارهم فكان خيراً لهم .
ولربما أنهم الأنقياء الأتقياء، فما اجتهدوا في إخفاء أعمالهم؛ إلا لخوفهم من ربهم وخوفهم من فساد أعمالهم بالعجب والغرور، وهجمات الرياء، وطلب ثناءالناس .
ولربما أنهم هم الجنود المجهولون، الناصحون العاملون، الذين قامت على سواعدهم هذه الصحوة المباركة ، فكم من ناصح .. ومن مرب .. وداع للحق لا يعرف ،
وكلمة .. ورسالة .. وشريط طار في كل مطار، فسارت به الركبان، كان خلفه أخفياء وأخفياء ، فهنيئا لهم !
ولربما أنهم أيضاً هم الساجدون الراكعون في الخلوات، فكم من دعوة في ظلمة الليل شقت عنان السماء، وكم من دمعة بللت الأرض ، وبهذه الدمعات وهذه السجدات حُفظنا وحُفظ أمننا، ورزقنا وسقانا ربنا .
ولربما أن الأخفياء هم الذين يسعون في ظلمة الليل ، ليتحسسوا أحوال الضعفاء والمساكين والأرامل والأيتام؛ لإطعام الطعام وبذل المال ؛
ليفكوا بها كربة مكروب، وليفرجوا بها هم أرملة ضعيفة شريدة الحال كثيرة العيال .
ولربما أن الأخفياء هم أولئك الذين لا يعرفهم الناس، أو الذين لا يعرف أعمالهم الناس ولكن الله سبحانه وتعالى يعلمها ، وكفى بالله شهيداً .. فهنيئاً لهم .
وما الذي يمنع أن يكونوا أولئك جميعاً ، وأن تكون هذه الصفات كلها صفات لأولئك الأخفياء ؟! والحديث عن الأخفياء ؛ لأنني نظرت لحال أولئك الرجال الذين نسمع قصصهم بل ونرى آثارهم ومصنفاتهم، ونرى أنهم أحياء بذكرهم وبعلمهم وبنفعهم وإن كانوا في بطن الأرض أمواتاً بتلك الأجساد الطيبة الطاهرة ..
فأسأل ما هو السر في حياة أولئك الرجال ؟! والسر هو توجه القلب كل القلب لله جل وعلا، توجهت قلوب أولئك الرجال فنالوا ما نالوا، ووصل سمعهم إلى عصرنا الحاضر،فكان القلب عمله وعلمه لله سبحانه وتعالى، وكان حبه وبغضه، وقوله وفعله وحركاته وسكناته ودقه وجله وسره وعلانيته لله يوم أن كانت الآيات هي الشعارات التي تُرفع، والكلمات التي تتردد في القلب قبل اللسان وفي كل مكان، ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:162] هكذا كانت الآيات ترفع فامتلأت بها القلوب..
:أما اليوم؛ فانظروا لحالنا كأفراد ، قلوبنا شذر مذر، ونفوسنا عجب وكبر، وأفعالنا تزين وإظهار، وأقوالنا لربماكانت طلباً للاشتهار همومنا في الملذات، وحديثنا في الشهوات،وصدق صلى الله عليه وسلم بقوله (إن الله كره لكم ثلاثاً: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)،إلا من رحم الله منا.وانظر لحالنا كأمة .. ذل ومهانة وهوان واحتقار..
فالسر في حياة أولئك : التوحيد لله وليس التوحيد قولاً فكلنا يقول لا إله إلا الله، ولكنه التوحيد القلبي أن تكون الأفعال والأقوال وحركات القلب وسكناته كلها لله سبحانه .
عرف هذا السر أولئك الأخفياء، فكانت الدنيا لهم والآخرة دارهم إن فقدت الأعمال والأقوال - أياً كان نوعها - خلوص النية لله جل وعلا؛ انتقلت من أفضل الطاعات إلى أحط المخالفات والعياذ بالله.
أفضل الطاعات، وأفضل القربات إلى الله جل وعلا، يوم صرفت لغير الله أصبحت أحط المخالفات، بل أصبحت هي التي تقود أصحابها إلى النار والعياذ بالله.
فما هو الطريق للوصول إلى حياة الأخفياء ؟!. ...الدعاء والإلحاح فيه ... الدعاء وتحري ساعات الإجابة، والاستمرار في الدعاء، والإلحاح فيه، لا تملّ ولا تكلّ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم وعلمنا في الحديث الذي يذهب عنا كبار الشرك وصغاره عندما قال (الشرك فيكم أخفى من دبيب النمل، وسأدلك على شيء إذا فعلته أذهب عنك صغار الشرك وكباره، تقول : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم) احفظ هذا الدعاء وكرره كثيراً، واسأل الله بصدق أن يرزقك الصدق والإخلاص في الأقوال والأفعال.
...الإكثار من مصاحبة المخلصين الناصحين الصادقين ... إن وجدت عليهم في هذا الزمن فعض عليهم بالنواجذ، و إن لم تجد فالجأ لحياة الأخفياء، والجأ لمصاحبة المخلصين من السلف الصالح رضوان الله تعالى عليهم، بقراءة أقوالهم والنظر في الكتب والتراجم، للاطلاع على تلك الأحوال، ولا شك أن القلب فيه حياة بالنظر لحياة أولئك.
... معرفة عظمة الله تعالى من خلال أسمائه وصفاته ... اعرف من تعبد، ولمن تعمل، وعظمة الله جل وعلا، واملأ قلبك بتوحيد الأسماء الصفات تطبيقاً عملياً حتى تعظم الله، وقديماً قالوا: (من كان بالله أعرف كان لله أخوف) ومن عظم الناس خاف من الناس وعمل للناس وسمع للناس وطلب ثناء الناس ، ولكن الله هو الذي سيجازيك وهو الذي يحاسبك.
..الحرص على اخفاء عمل صالح ... احرص دائماً أن يكون لك سر بينك وبين الله جل وعلا، لا يعلمه أحد من الناس إن استطعت أن تفعل عملاً بينك وبين الله لا يعلمه أقرب الأقربين إليك،فلا شك أن هذه الأعمال هي المنجية يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.
...الخوف من عدم قبول العمل ... دائماً كن خائفاً على عملك أن لا يقبل، وأن يخالط هذا العمل رياءٌ أو سمعةٌ، وأخشى أن تقدم على الله تعالى بتلك الأعمال الكثيرة والأقوال الكثيرة فتكون ممن قال الله عز وجل فيهم ( وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً) [الفرقان:23]، عافانا الله وإياك من حال أولئك.
.... تذكر ثمرات الإخلاص ... تذكر هذه الثمرات، وحلاوة القلب، وحب الله تعالى للمخلص، ووضع القبول له في الأرض، ومحبة الناس له، وطمأنينة القلب، وحسن الخاتمة، واستجابة دعائه، والنعيم له في القبر وفي الآخرة ..