لم
يعد دور الأسرة في تربية أطفالها يقتصر على توفير حاجاتهم المادية التي
تتمثل في الغذاء والكساء، وإنما تعدى ذلك إلى إشباع حاجات أساسية أخرى من
شأنها أن تجعل من الطفل إنسانا متزنا واثقا بنفسه، ومتحررا من قيود التردد
والخوف والقلق. فما أهم هذه الحاجات؟. وما الدور الذي تنهض به في عملية
تشكيل شخصية الطفل؟.
أجمع علماء النفس على أهمية إشباع جميع حاجات الطفل الأساسية،وعلى وجه
الخصوص النفسية منها؛ لأن عدم إشباعها بشكل متوازن يترتب عليه مشكلات في
الصحة النفسية للطفل، واضطرابات في مراحل عمرية لاحقة. وأكد عالم النفس
(وليام جلاسر) على أهمية إشباع حاجتين رئيسيتين هما :
- حاجة الطفل إلى أن يحب وإلى أن يحب من الآخرين.
- حاجة الطفل إلى أن يشعر بقيمته عند نفسه وعند الآخرين.
وتؤكد العديد من الدراسات التي أجريت حول هذه المسألة، ومن أشهرها دراسة
قام بها بياجيه Piaget إلى أن حاجة الطفل إلى المحبة تأتي في مقدمة هذه
الحاجات؛ فالطفل بفطرته يحتاج إلى من يرعاه ويعطف عليه ويوفر له الأمان
والمكان الذي يجد فيه الطمأنينة، فينشأ سليما قوي الإرادة.
يقول الدكتور فيصل عباس في كتابه ''علم نفس الطفولة '' ص25: '' إن الطفل
يحتاج إلى العاطفة والرعاية والحنان والاستقرار في المعاملة، فإذا استطاع
الوالدان أن يقوما برعاية الطفل، وأن يتعرفا على حاجاته وأن يستجيبا لها
بطريقة مناسبة، ساعد ذلك على تنمية علاقة ايجابية فعالة بين الطفل
وأسرته.... ومع تكرار الخبرة يكتسب الطفل الثقة في أن حاجاته الأساسية سوف
تشبع، وبالتالي يصبح مستعدا لتكيف سلوكه. وفي هذا الإطار من التأثير
المتبادل بين الطفل ووالديه، ينمو السلوك الانفعالي والاجتماعي عنده
ويزداد..''.
وفي المقابل فإن تجاهل حاجات الطفل النفسية يترتب عليه خلل في توازنه
النفسي وفي تنشئته الاجتماعية أن الكثير من الاضطرابات والمشكلات السلوكية
التي يعاني منها الطفل مثل الخوف والقلق مردها إلى افتقاره إلى المحبة، أو
لشعوره بالظلم، أو إلى غياب أحد والديه عنه بسبب الموت أو الطلاق، أو
لغيابهما معا في العمل الذي يمتد أحيانا لساعات طويلة، وهذا الغياب من شأنه
أن يتيح للطفل فرصا للاختلاط برفاق السوء في الشارع، فيتعلم منهم ما يضره
وما لا ينفعه.
كما يلعب التفكير الخرافي المتمثل في الاعتقادات الخطأ وفي الحكايات
الخرافية التي تحكيها بعض الجدات والأمهات الجاهلات لأطفالهن دورا مدمرا
لإحساس الطفل بالأمان، فتراه ينشأ خائفا مضطربا بفعل حكايات جدته له.
ومن جهة ثانية فإن الطفل يرى أن من حقه أن يحظى بحنان أمه وبرعاية أبيه دون
أن ينازعه في هذا الحق منازع، لذلك تراه شديد الغيرة من أخيه الأصغر أو من
أي طفل آخر قد يراه يجلس في حضن أمه مثلا، حتى أنه يغار من أبيه إذا رآه
يقترب من أمه، فيسارع إلى وضع نفسه بينهما، وإذا حال أحدهم بينه وبين هذه
الحقوق فإن من شأن ذلك أن يحدث في نفسه شرخا.
إن بعض الأعراض المرضية التي تبدو على الطفل كالتبول في الفراش مثلا مردها
إلى أسباب نفسية، من أبرزها شعوره بالغيرة، أو بالإهمال، أو بأنه يفتقد من
يحبه ويعطف عليه. لذلك فإنه يجب على الوالدين أن يشعرا طفلهما بالحنان
وبأنه مقبول منهما ومن جميع المتصلين به، وهذا الشعور يترتب عليه إحساسه
بذاته كمخلوق يحظى باحترام الآخرين له.
ومن الأسباب التي تجعل الطفل يشعر بالخوف وبعدم الشعور بالأمان وضعه في مواقف محرجة أو مواقف يشعر فيها بالذنب.
وكذلك فإن عدم إشباع حاجة الطفل إلى المحبة قد يجعل منه إنسانا عصبيا سريع الغضب، ميالا إلى العناد والتخريب.
ومن جانب آخر يشير الدكتور فاخر عاقل في كتابه ''معالم التربية'': إلى أن
العديد من الدراسات أظهرت أن أسباب انحرافات الأطفال السلوكية مردها إلى
البيوت المضطربة، فيقول في ص63: '' لقد دلت الدراسات العلمية التي أجريت
على الأطفال الجانحين، بما لا يقبل الجدل على أن أكثرية هؤلاء الأطفال
يأتون من بيوت تكون فيها الأم مطلقة، أو يكون الأب فيها سكيرا، أو قليل
العناية ببيته وأولاده، سريع الغضب، كثير الضرب، ظالما قاسيا. أو من بيوت
تكون الأم فيها مهملة كثيرة الخروج من البيت، قليلة العناية بأطفالها..''
وأفادت دراسات أخرى أن كثيرا من الخارجين على القانون، والذين يميلون إلى
القسوة والعنف في ممارساتهم، قد تربوا في بيوت مضطربة. لذلك فإن إشاعة جو
من المحبة والاحترام في البيت بين أفراد العائلة من شأنه أن ينعكس بالإيجاب
على علاقات هؤلاء الأبناء مع الآخرين.
كذلك فإن تخصيص الوالدين جزءا من وقتهما لرعاية أطفالهما من شأنه أن يعود عليهم بالشعور الآمن والاستقرار النفسي.
وإذا كان للحنان دور إيجابي في تشكيل شخصية الطفل، فإن للتدليل الزائد،
وللقسوة المفرطة، وللوصاية المبالغ فيها آثارا مدمرة لهذه النفس الغضة،
وأما
الحنان النابع من المحبة فإنه غذاء للروح وللجسد معا
.