رياح الخوف .. ؟؟
الريح تعصف بقوة, تضرب كل ما يقف أمامها.. تقتلع بطريقها أشجارا يافعة لم تضرب جذورها الناعمة بعمق في الأرض, فتطير معها أعشاش عصافير صغيرة, والحمائم تحوم حول المكان, تبحث عن صغارها وتهدل بهديل مفعم بالوجع والحزن وكأنها تبكيهم, وربما تطمئنهم إنها مازالت قريبة منهم.. لتحميهم.. أوجع قلبي منظر أفراخا صغيرة, وأنا أتخيلها والريح تتقاذفها ذات اليمين وذات الشمال, لكني لم أقوى على الخروج إلى الحديقة لألتقطها.. كان الخوف يتربص هناك جاثما خلف سياج داري .. ينتظر الفرصة حين تسنح.
تابعته بعين أذبلها البكاء وأتعبها السهر, وهو يقبع في الظلمة يتربص بيَّ.. يرمقني بنظرات حمراء بلون الدم, تومض بوميض ناري كلما أبرقت السماء وأرعدت.. أجفلت حين صفقت الريح بابا لم يكن موصدا, استشعرت رهبة افترشت مساحات جسدي بقشعريرة, أخفقت وأنا أحاول جاهدة أن أتجاهلها.. وصورة الخوف تقف بصلفٍ أمامي, تضحك مني بوحشية مفجعةٍ.
صفعتني صورتي وأنا أراها بالمرآة تهتز, والخوف مازال يضحك مني ويهزأ بيّ, غطيت وجهي كي لا أرى ملامح لست أعرفها.. وهديل الحمائم يدوي برأسي يأبى مفارقتي.. فهربت مني إلى غرفتي.
صارت الريح أشد وأقوى .. واهتز زجاج النوافذ, وأصدرت الأبواب صريرا.. أرغمني أن أدير رأسي, أتلفت حولي كمن أصيب بمس من الجنون.
تركت المكان وهرعت إلى النافذة, أنظر منها إلى السماء التي تلبدت بغيوم سوداء كثيفة, ترسم وحوشا ورموزا مخيفة, وهي تجري بسرعة الريح خلف بعضها .. تلتهم بعضها البعض بشراهة وقسوة عجيبة.. فتكبر وتكبر, والريح العاصفة تدفع بها, لتصطدم بينها, فتبرق السماء وترعد.
وضعت يدًّي على أذنيّ َكي لا أسمع, وأغمضت عيني ببلادةٍ كي لا أرى, وحين فتحتهما.. رأيت الخوف القابع خلف سياج الدار يتجه نحوي.. يقترب مني .. يلاصق ظلي الذي انعكس من ضياء الفانوس خلفي.. أردت أن أصرخ بعلو صوتي.. فتحت فمي على وسعه, فلم يخرج منه سوى حشرجة مبحوحة, امتقع وجهي واحتقنت حنجرتي بصرخاتي المكتومة.. أخرسني خوفي وأنا أراه أمامي.. يواجهني.. وذاتي يجلد ذاتي بسياط حقيقة مرة.. إنني خائفة.
أحسست بالذل والمهانة تملأ نفسي التي أنكرتها لأنها ليست أنا.. وأنا أختبئ خلف الكرسي أرتعد خوفا.. استباحني شعور بالقهر ورغبة كبيرة بأن أتقيأ لأستفرغ جوفي وأخرج ما فيه.. رشقت وجهي مرارا وتكرارا, بالماء كي أستعيد رشدي الذي فقدته.. وتوجهت إلى غرفتي, بعد أن تمالكت نفسي وعاد ليّ ثباتي.. حاولت أن أغفو وأنا أرمق سقف الغرفة بنظرات زائغة.. للحظةٍ.. هيأ لي أني سمعت صوت دبيب أقدام تمشي بحذر, رغم شدة عصف الريح وصفيرها المخيف, لكن خوفي يحفز سمعي وحواسي.. استنكرت على نفسي إحساسها السابق.. تجلدت هذه المرة ومددت يدي على الدرج القريب من رأسي.. فتحته وسحبت بخفة منه مسدسي, الذي اقتنيته منذ أن اقتحم الخوف بلدي, لتعصف فيه, الرياح الهوجاء وتتلبد سمائه بالغيوم الداكنةِ.. فهو يشعرني بالأمان لو حدث ما كنت أخشاه.
ارتعشت يدي وأنا أرفع حافة الستارة قليلا لأرى.. أبرقت السماء, لحظةً, ليظهر ظل خوفي جليا هذه المرة.. يقبع بسكون مستترا بالظلمة خلف نافذة غرفة نومي .. يجلس القرفصاء كوحش, آدمي.
ازدادت ارتعاشة يدي ولحق بها جسدي, وتلاحقت أنفاسي, يعلو بها ويهبط صدري.. لكني لم أفقد ثباتي.. صوبت فوهة المسدس من خلف زجاج النافذة.. وضغطت على الزناد.. دوى صوت الإطلاق قويا مرعدا, والسماء مازالت تبرق والريح تهدر, وتزمجر.. خيل لي أني سمعت صوت توجعٍ ٍيصدر من ظل خوفي.. ثم سكت.
قبعت بمكاني أتنصت وأنا أرتعش حتى انبلج الصبح, فشعرت بالأمان والطمأنينة, وأنا أسمع صوت العصافير عادت تزقزق.. بعد أن هدأت الريح قليلا.
بحذر توجهت صوب الحديقة ومسدسي مازال بيدي.. كان منظر ضياء الصبح جميلا , آمناً, هكذا أحسسته وأنا أرفع رأسي نحو السماء.
ابتسمت بتهكم من نفسي وأنا أتذكر خوفي العارم من خوفي, بالأمس, وإطلاقي النار عليه.
أجلت نظري بحديقتي التي عمها الخراب, والريح العاصفة اقتلعت الكثير من زهوري الجميلة التي غرستها بيدي, فهمست لنفسي بلوعة وقهرٍ, ودموعي تترقرق بمقلتي:.. لا بأس, غدا, سأزرع غيرها.
مشيت بضع خطوات بالحديقة أبحث عن أفراخ الحمائم , علني أجدها.. تجمدت بمكاني .. واتسعت عيناي على وسعيهما وأنا أرى قرب نافذة غرفة نومي.. جسدا بشريا مكوما.. يتشح بالسواد.. مقنع الرأس.. تقبع بجانبه رشاشته.. وبركة من الدماء تحيط فيه.