حديث الرجل الذي منعه الصدق من سائر المنكرات
السؤال: هل ورد هذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلاً أتى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال له : إنني سرقت وشربت الخمر وقامرت وكذبت ، وأريد أن أتوب من هذه الأفعال ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : عليك بالتوقف عن الكذب ، وجميع المنكرات التي ذكرتها سوف تذهب عنك من تلقائها . فوافق الرجل على ترك الكذب . وفي الليلة التالية ذهب الرجل ليسرق ، ولكن الرجل فكر في أنه إذا سرق سوف يأتي أهله في ساعة متأخرة ، وعندما يسألونه أين كان ، فسوف يكذب عليهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أمره بأن لا يكذب ، فقرر أنه لا يسرق مرة أخرى ، وبعد فترة أراد الرجل أن يشرب خمرا ، ولكنه عندما أدرك أنه عندما يشرب سوف يسأل عن رائحته ، وأنه عليه أن يكذب حول رائحته ، وتوقف الرجل عن الكذب ، فبالتالي توقف عن الشرب والسرقة والقمار . أرجو من فضيلتكم أن تجيبوني في حكم هذا الحديث ؛ لأن معلمي طلب مني إلقاء كلمة على الطلاب والمعلمين تحتوي على هذا الحديث. وجزاكم الله خير الجزاء .
الجواب : الحمد لله
أولا :
ليس هذا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا يعرف له أصل في كتب السنة ، وإنما تنقله بعض كتب الآداب والرقائق التي هي مظنة الأحاديث الضعيفة والموضوعة .
جاء في كتاب " المحاسن والأضداد " للجاحظ (ص/14)، وكتاب " ربيع الأبرار " للزمخشري (ص/376) :
" قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : أنا أستسر بخلال أربع : الزنا ، والسرقة ، وشرب الخمر ، والكذب ، فأيتهن شئت تركت لك يا رسول الله ؟
قال : دع الكذب .
فلما تولى همَّ بالزنا ، فقال : يسألني ، فإن جحدت نقضته ما جَعلتُ له ، وإن أقررت حددت أو رجمت .
ثم هم بالسرقة ، ثم في شرب الخمر ، ففكر في مثل ذلك .
فرجع إليه فقال : قد أخذت علي السبيل ، قد تركتهن أجمع " انتهى.
ومثله في كتاب " التذكرة الحمدونية " (ص/301)، والكامل في الأدب للمبرد (2/156)
وتُنقل هذه القصة أيضا عن بعض أهل العلم من المشايخ أرباب السلوك ، أنه نصح بعض التائبين إليه بترك الكذب ، فأدى به إلى ترك جميع المعاصي ، ولعل ذلك هو الأقرب للصواب في شأن القصة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" من عقوبة السيئة السيئة بعدها ، ومن ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، والحسنات والسيئات قد تتلازم ويدعو بعضها إلى بعض ، كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ( إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا ) رواه البخاري (6094) ومسلم (2607)
ثم قال : فالصدق مفتاح كل خير ، كما أن الكذب مفتاح كل شر ، ولهذا يقولون عن بعض المشايخ إنه قال لبعض من استتابه من أصحابه : أنا لا أوصيك إلا بالصدق ، فتأملوا فوجدوا الصدق يدعوه إلى كل خير " انتهى.
" الاستقامة " (467)
ثانيا :
ننقل هنا عن العلامة ابن القيم كلاما مفيدا في تفسير كيف أن الكذب هو سبب المعاصي والآثام.
قال رحمه الله :
" إياك والكذب ، فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه ، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس ، فإن الكذب يصور المعدوم موجودا ، والموجود معدوما ، والحق باطلا والباطل حقا ، والخير شرا والشر خيراً ، فيفسد عليه تصوره وعلمه ، عقوبة له .
ثم يصور ذلك في نفس المخاطب المغتر به الراكن إليه ، فيفسد عليه تصوره وعلمه ، ونفس الكاذب معرضة عن الحقيقة الموجودة ، نزاعة إلى العدم ، مؤثرة للباطل .
وإذا فسدت عليه قوة تصوره وعلمه - التي هي مبدأ كل فعل إرادي - فسدت عليه تلك الأفعال ، وسرى حكم الكذب إليها ، فصار صدورها عنه كمصدر الكذب عن اللسان ، فلا ينتفع بلسانه ولا بأعماله .
ولهذا كان الكذب أساس الفجور ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : - فذكر حديث ابن مسعود السابق - وأول ما يسري الكذب من النفس إلى اللسان فيفسده ، ثم يسري إلى الجوارح فيفسد عليها أعمالها كما أفسد على اللسان أقواله ، فيعم الكذب أقواله وأعماله وأحواله ، فيستحكم عليه الفساد ، ويترامى داؤه إلى الهلكة إن لم يتدراكه الله بدواء الصدق يقلع المادة من أصلها .
ولهذا كان أصل أعمال القلوب كلها الصدق ، وأضدادها من الرياء والعجب والكبر والفخر والخيلاء والبطر والأشر والعجز والكسل والجبن والمهانة وغيرها أصلها الكذب ، فكل عمل صالح ظاهر أو باطن فمنشؤه الصدق ، وكل عمل فاسد ظاهر أو باطن فمنشؤه الكذب ، والله تعالى يعاقب الكذاب بأن يقعده ويثبطه عن مصالحه ومنافعه ، ويثيب الصادق بأن يوفقه للقيام بمصالح دنياه وآخرته ، فما استجلبت مصالح الدنيا والآخرة بمثل الصدق ، ولا مفاسدهما ومضارهما بمثل الكذب " انتهى باختصار.
" الفوائد " (ص/144-145)
والله أعلم .