ما هو العلم الذي أسره أبو هريرة رضي الله عنه ، وخاف من نشره ؟!
السؤال : هل يمكنكم أن تشرحوا بشيء من التفصيل أي أنواع العلم لم يكن أبو هريرة ينشره ، هذا الحديث مأخوذ من الجزء الأول كتاب 3 الحديث 121 من صحيح البخاري . رواه أبو هريرة : ( حفظت عن رسول الله وعاءين ، فأما الأول فبثثته ، وأما الآخر وأما الآخر لو بثثته قطع هذا البلعوم ) . جزاكم الله خيرا.
الجواب :
الحمد لله
روى البخاري (120) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ : " حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وِعَاءَيْنِ : فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا الْبُلْعُومُ " .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (1/216) :
" حَمَلَ الْعُلَمَاء الْوِعَاء الَّذِي لَمْ يَبُثّهُ عَلَى الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا تَبْيِين أَسَامِي أُمَرَاء السُّوء ، وَأَحْوَالهمْ وَزَمَنهمْ , وَقَدْ كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَكُنِّي عَنْ بَعْضه وَلَا يُصَرِّح بِهِ ، خَوْفًا عَلَى نَفْسه مِنْهُمْ , كَقَوْلِهِ : أَعُوذ بِاَللَّهِ مِنْ رَأْس السِّتِّينَ وَإِمَارَة الصِّبْيَان ؛ يُشِير إِلَى خِلَافَة يَزِيد بْن مُعَاوِيَة لِأَنَّهَا كَانَتْ سَنَة سِتِّينَ مِنْ الْهِجْرَة . وَاسْتَجَابَ اللَّه دُعَاء أَبِي هُرَيْرَة فَمَاتَ قَبْلهَا بِسَنَةٍ .
قَالَ اِبْن الْمُنِير : وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو هُرَيْرَة بِقَوْلِهِ : " قُطِعَ " أَيْ : قَطَعَ أَهْل الْجَوْر رَأْسه إِذَا سَمِعُوا عَيْبه لِفِعْلِهِمْ وَتَضْلِيله لِسَعْيِهِمْ , وَيُؤَيِّد ذَلِكَ أَنَّ الْأَحَادِيث الْمَكْتُوبَة لَوْ كَانَتْ مِنْ الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة مَا وَسِعَهُ كِتْمَانهَا . وَقَالَ غَيْره : يَحْتَمِل أَنْ يَكُون أَرَادَ مَعَ الصِّنْف الْمَذْكُور مَا يَتَعَلَّق بِأَشْرَاطِ السَّاعَة وَتَغَيُّر الْأَحْوَال وَالْمَلَاحِم فِي آخِر الزَّمَان , فَيُنْكِر ذَلِكَ مَنْ لَمْ يَأْلَفهُ , وَيَعْتَرِض عَلَيْهِ مَنْ لَا شُعُور لَهُ بِهِ " انتهى ملخصا .
وقال العيني في العمدة :
" أراد به نوعين من العلم ، وأراد بالأول : الذي حفظه من السنن المذاعة ، لو كتبت لاحتمل أن يملأ منها وعاء ، وبالثاني : ما كتمه من أخبار الفتن كذلك .
ويقال : حمل الوعاء الثاني على الأحاديث التي فيها تبيين أسامي أمراء الجور وأحوالهم وذمهم " انتهى . "عمدة القاري" (3 / 364)
وقال القرطبي رحمه الله : " حُمل على ما يتعلق بالفتن من أسماء المنافقين ونحوه ، أما كتمه عن غير أهله فمطلوب بل واجب " انتهى .
"التيسير بشرح الجامع الصغير" (2 / 852)
وقال ابن بطال رحمه الله :
" قال المهلب ، وأبو الزناد : يعنى أنها كانت أحاديث أشراط الساعة ، وما عرف به صلى الله عليه وسلم من فساد الدين ، وتغيير الأحوال ، والتضييع لحقوق الله تعالى ، كقوله صلى الله عليه وسلم : ( يكون فساد هذا الدين على يدى أغيلمة سفهاء من قريش ) ، وكان أبو هريرة يقول : لو شئت أن أسميهم بأسمائهم ، فخشى على نفسه ، فلم يُصَرِّح . وكذلك ينبغى لكل من أمر بمعروف إذا خاف على نفسه في التصريح أن يُعَرِّض . ولو كانت الأحاديث التي لم يحدث بها من الحلال والحرام ما وَسِعَهُ تركها ، لأنه قال : " لولا آيتان في كتاب الله ما حدثتكم ، ثم يتلو : ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ) البقرة / 159 .
"شرح صحيح البخارى" لابن بطال (1 / 195) .
وقال ابن الجوزي رحمه الله :
" ولقائل أن يقول : كيف استجاز كتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قال :
( بلغوا عني ) ؟ وكيف يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما إذا ذكر قتل راويه ؟ وكيف يستجيز المسلمون من الصحابة الأخيار والتابعين قتل من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟
فالجواب أن هذا الذي كتمه ليس من أمر الشريعة ؛ فإنه لا يجوز كتمانها ، وقد كان أبو هريرة يقول : " لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم " وهي قوله ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى ) فكيف يظن به أن يكتم شيئا من الشريعة بعد هذه الآية ، وبعد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ عنه ؟ وقد كان يقول لهم : ( ليبلغ الشاهد منكم الغائب ) وإنما هذا المكتوم مثل أن يقول : فلان منافق ، وستقتلون عثمان ، و( هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش ) بنو فلان ، فلو صرح بأسمائهم لكذبوه وقتلوه " انتهى .
"كشف المشكل من حديث الصحيحين" (ص / 1014)
فقد تبين أن الأحاديث التي ترك أبو هريرة رضي الله عنها نشرها وإذاعتها بين عموم الناس ، ليست مما يتعلق بالحلال والحرام ، ولا مما يترتب عليه عمل أو تكليف ، وإنما هي أحاديث عن بعض الفتن ، وأحوال الملوك والأمراء ، مما لا ينبغي أن ينشغل به ، أو يخوض فيه إلا خاصة أهل العلم والرأي