بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الحـمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى
آلـه وصحبه ومن والاه
الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بنور الله أهل العمى فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه وكم من ضال تائه قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين الذين عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب مجمعون على مفارقة الكتاب يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم يتكلمون بالمتشابه من الكلام ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم فنعوذ بالله من فتن المضلين
أَبدَأُ بِاسمِ اللهِ مُستَعينَا *** رَاضٍ بِهِ مُدَبِّراً مُعِيناَ
وَالحَمدُ للهِ كَمَا هَدانا *** إِلَى سَبيلِ الحَقِّ وَاْجتَبانا
أَحمَدُهُ سُبحانَهُ وَأَشكُرُهْ *** وَمِن مَسَاوِي عَمَلِي أَستَغفِرُهْ
وَأَستَعينُهُ عَلَى نَيلِ الرِّضَى *** وَأَستَمِدُّ لُطفَهُ فِيمَا قَضَى
وَبَعدُ : إِنِّي بِاليَقينِ أَشهَدُ *** شَهادَةَ الإِخلاصِ أَنْ لا يُعبَدُ
بِالْحَقِّ مَألُوهٌ سِوَى الرَّحمَانِ ***مَنْ جَلَّ عَن عَيبٍ وَعَن نُقصَانِ
وَأَنَّ خَيرَ خَلقِهِ مُحَمَّدَاْ *** مَن جَاءَنَا بِالبَيِّناتِ وَالهُدَى
رَسُولُهُ إِلَى جَميعِ الْخَلقِ *** بِالنُّورِ والهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ
صَلَّى عَلَيهِ رَبُّنَا وَمَجَّدَاْ *** وَالآلِ وَالصَّحبِ دَوَاماً سَرْمَدَاْ
" تعريف البدعة - أنواعها وأحكامها "
1) تعريف البدعة في اللغة :
مأخوذ من البَدع وهو الإختراع على غير مثال سابق , ومنه قوله تعالى (( بديع السموات والأرض )) [ البقرة : 117 ] أي مخترعهما على غير مثال سابق , قوله تعالى (( قل ما كنت بدعا من الرسل )) [ الأحقاف : 9 ] , أي ما كنت أول من جاء بالرسالة من الله إلى العباد , بل تقدمني كثير من الرسل ويقال : ابتدع بدعة يعني ابتدأ طريقة لم يسبق اليها .
2) تعريف البدعة في الاصطلاح :
أما في الاصطلاح، فقد تعددت تعريفات البدعة وتنوعت لاختلاف أنظار العلماء في مفهومها ومدلولها . فمنهم من وسع مدلولها ، حتى أطلقها على كل مستحدث من الأشياء ، ومنهم من ضيق ما تدل عليه ، فتقلص بذلك ما يندرج تحتها من الأحكام . وسنوجز هذا في اتجاهين
الاتجاه الأول :
أطلق أصحاب الاتجاه الأول البدعة على كل حادث لم يوجد في الكتاب والسنة ، سواء أكان في العبادات أم العادات ، وسواء أكان مذموما أم غير مذموم
ومن القائلين بهذا الإمام الشافعي ، ومن أتباعه العز بن عبد السلام ، والنووي ، وأبو شامة . ومن المالكية : القرافي ، والزرقاني . ومن الحنفية : ابن عابدين . ومن الحنابلة : ابن الجوزي . ومن الظاهرية : ابن حزم .
ويتمثل هذا الاتجاه في تعريف العز بن عبد السلام للبدعة وهو :
أنها فعل ما لم يعهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهي منقسمة إلى بدعة واجبة ، وبدعة محرمة ، وبدعة مندوبة ، وبدعة مكروهة ، وبدعة مباحة
وضربوا لذلك أمثلة : فالبدعة الواجبة : كالاشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله ، وذلك واجب ؛ لأنه لا بد منه لحفظ الشريعة ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . والبدعة المحرمة من أمثلتها : مذهب القدرية ، والجبرية ، والمرجئة ، والخوارج . والبدعة المندوبة : مثل إحداث المدارس ، وبناء القناطر ، ومنها صلاة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد . والبدعة المكروهة : مثل زخرفة المساجد ، وتزويق المصاحف . والبدعة المباحة : مثل المصافحة عقب الصلوات ، ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس . واستدلوا لرأيهم في تقسيم البدعة إلى الأحكام الخمسة بأدلة منها :
( أ ) قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح جماعة في المسجد في رمضان نعم البدعة هذه . فقد روي عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون يصلي الرجل لنفسه ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب ثم خرجت معه ليلة أخرى والناس يصلون بصلاة قارئهم قال عمر نعم البدعة هذه والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله. رواه البخارى و لمسلم نحوه
( ب ) تسمية ابن عمر صلاة الضحى جماعة في المسجد بدعة ، وهي من الأمور الحسنة . روي البخارى عن مجاهد قال : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد ، فإذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما جالس إلى حجرة عائشة ، وإذا ناس يصلون في المسجد صلاة الضحى ، قال فسألناه عن صلاتهم - فقال : بدعة .
( ج ) الأحاديث التي تفيد انقسام البدعة إلى الحسنة والسيئة ، ومنها ما رواه مسلم : { من سن في الإسلام سنة حسنة فعمل بها بعده كتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعمل بها بعده كتب عليه مثل وزر من عمل بها ولا ينقص من أوزارهم شيء }
الاتجاه الثاني :
اتجه فريق من العلماء إلى ذم البدعة ، وقرروا أن البدعة كلها ضلالة ، سواء في العادات أو العبادات .
ومن القائلين بهذا الإمام مالك والشاطبي والطرطوشي . ومن الحنفية : الإمام الشمني ، والعيني . ومن الشافعية : البيهقي ، وابن حجر العسقلاني ، وابن حجر الهيتمي . ومن الحنابلة : ابن رجب ، وابن تيمية
وأوضح تعريف يمثل هذا الاتجاه هو تعريف الشاطبي ، حيث عرف البدعة بتعريفين :
الأول أنها :
طريقة في الدين مخترعة ، تضاهي الشريعة ، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه .
وهذا التعريف لم يدخل العادات في البدعة ، بل خصها بالعبادات ، بخلاف الاختراع في أمور الدنيا .
الثاني أنها :
طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة ، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية .
وبهذا التعريف تدخل العادات في البدع إذا ضاهت الطريقة الشرعية ، كالناذر للصيام قائما لا يقعد متعرضا للشمس لا يستظل ، والاقتصار في المأكل والملبس على صنف دون صنف من غير علة .
واستدل القائلون بذم البدعة مطلقا بأدلة منها :
( أ ) أخبر الله أن الشريعة قد كملت قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال سبحانه : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا } فلا يتصور أن يجيء إنسان ويخترع فيها شيئا ؛ لأن الزيادة عليها تعتبر استدراكا على الله سبحانه وتعالى . وتوحي بأن الشريعة ناقصة ، وهذا يخالف ما جاء في كتاب الله .
( ب ) وردت آيات قرآنية تذم المبتدعة في الجملة ، من ذلك قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله }
( ج ) كل ما ورد من أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في البدعة جاء بذمها ، من ذلك حديث العرباض بن سارية : { صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ثم أقبل علينا فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب فقال قائل يا رسول الله كأن هذه موعظة مودع فماذا تعهد إلينا فقال أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن عبدا حبشيا فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين الراشدين تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة } رواه أبو داود و لباقى أصحاب السنن و أحمد مثله و صححه الألباني.
( د ) أقوال الصحابة في ذلك ، من هذا ما روي عن مجاهد قال : دخلت مع عبد الله بن عمر مسجدا ، وقد أذن فيه ، ونحن نريد أن نصلي فيه ، فثوب المؤذن ، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : " اخرج بنا من عند هذا المبتدع " ولم يصل فيه.
3) والابتداع على قسمين :
أولا : ابتداع في العادات كابتداع المخترعات الحديثة , وهذا مباح لأن الأصل في العادات الإباحة
ثانيا : ابتداع في الدين وهذا محرم , لأن الأصل فيه التوقف , قال صلى الله عليه وسلم (( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )) [ رواه البخاري ومسلم ] , وفي رواية (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد )) [ متفق عليه ]
4) أنواع البدع - البدعة في الدين نوعان :
النوع الأول :
بدعة قولية اعتقادية : كمقالات الجهمية والمعتزلة والرافضة وسائر الفرق الضالة واعتقاداتهم .
النوع الثاني :
بدعة في العبادات : كالتعبد لله بعبادة لم يشرعها وهي أقسام :
القسم الأول :
ما يكون في أصل العبادة : بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع . كأن يحدث صلاة غير مشروعة أو صياما غير مشروع أصلا أو أعيادا غير مشروعة كأعياد الموالد وغيرها .
القسم الثاني :
ما يكون في الزيادة في العبادة المشروعة , كما لو زاد ركعة خامة في صلاة الظهر أو العصر مثلا .
القسم الثالث :
ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة بأ يؤديها على صفة غير مشروعة , وذلك كأداء الأذكار المشروعة بأصوات جماعية مطربة , وكالتشديد على النفس في العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم .
القسم الرابع :
ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم يخصصه الشرع , كتخصيص يوم النصف من شعبان وليله بصيام وقيام , فإن أصل الصيام والقيام مشروع ولكن تخصيصه بوقت من الأوقات يحتاج إلى دليل .
5) حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها :
كل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة , لقوله صلى الله عليه وسلم (( وإياكم ومحدثات الأمور , فإن كل محدثة بدعة , وكل بدعة ضلالة )) [ رواه ابو داود والترمذي وقال : حسن صحيح ] , وفي رواية (( من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد )) , وفي رواية (( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ))
فدل الحديثنا على أن كل محدث في الدين فهو بدعة , وكل بدعة ضلالة مردودة , ومعني ذلك أن البدع في العبادات والإعتقادات محرمة , ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة , فمنها ما هو كفر صراح , كالطواف بالقبور تقربا إلى أصحابها , وتقديم الذبائح والنذور لها , ودعاء أصحابها والإستغاثة بهم , وكأقوال غلاة الجهمية والمعتزلة ,,, ومنها ماهو من وسائل الشرك , كالبناء على القبور والصلاة والدعاء عندها ,,, ومنها ماهو فسق اعتقادي كبدعة الخواراج والقدرية والمرجئة في أقوالهم واعتقاداتهم المخالفة للأدلة الشرعية ,,, ومنها ماهو معصية كبدعة التبتل والصيام قائما في الشمس , والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع [ ينظر الإعتصام للشاطبي ( 37/2 ) ]
قال البيهقي : أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الربيع بن سليمان قال : قال الشافعي رضي الله عنه : المحدثات من الأمور ضربان أحدهما ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً فهذه لبدعة الضلالة ، والثانية ما أحدث من الخير لا خلاف فيه لواحد من هذا فهذه محدثة غير مذمومة وقد قال عمر رضي الله عنه في قيام شهر رمضان نعمت البدعة هذه يعني أنها محدثة لم تكن وإن كانت فليس فيها رد لما مضى .
أخرجه البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى ص206 ، وأبو شامة في الباعث على إنكار البدع ص23 ، والذهبي في تاريخ الإسلام 14 / 339 ، وفي سير أعلام النبلاء 10 / 70 وسنده صحيح .
قال ابن الأثير : وفي حديث عمر رضي الله عنه في قيام رمضان نعمت البدعة هذه البدعة بدعتان بدعة هدى وبدعة ضلال فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار وما كان واقعا تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه الله أو رسوله فهو في حيز المدح وما لم يكن له مثال موجود كنضوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهو من الأفعال المحمودة ولا يجوز أن يكون ذلك في خلاف ما ورد الشرع به لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جعل له في ذلك ثوابا فقال من سن سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها وقال في ضده ومن سن سنة سيئة كان عله وزرها ووزر من عمل بها وذلك إذا كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم ومن هذا النوع قول عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه لما كانت من أفعال الخير وداخله في حيز المدح سماها بدعة ومدحها لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنها لهم وإنما صلاها ليالي ثم تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس لها ولا كانت في زمن أبي بكر وإنما عمر رضي الله عنه جمع الناس عليها وندبهم إليها فبهذا سماها بدعة وهي على الحقيقة سنة لقوله صلى الله عليه وسلم عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وقوله اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر وعلى هذا التأويل يحمل الحديث الآخر كل محدثة بدعة إنما يريد ما خالف أصول الشريعة ولم يوافق السنة .
النهاية في غريب الحديث لابن الأثير 1 / 106- 107
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى : والمراد بقوله كل بدعة ضلالة ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام .
فتح الباري 13 / 254
قال القرطبي رحمه الله : وكل بدعة ضلالة يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة أو عمل الصحابة رضي الله .
تفسير القرطبي 2 / 87
قال الإمام ابن كثير رحمه : والبدعة على قسمين تارة تكون بدعة شرعية كقوله فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن كم إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم نعمت البدعة . تفسير ابن كثير 1 / 162
قال الحافظ ابن رجب : المراد بالبدعة ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه وأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعا وإن كان بدعة لغة .
و قال رحمه الله : وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال نعمت البدعة ... إلى قوله : ومراده أن هذا الفعل لم يكن على هذا الوجه قبل هذا الوقت ولكن له أصل في الشريعة يرجع إليها فمنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحث على قيام رمضان ويرغب فيه وكان الناس في زمنه يقومون في المسجد جماعات متفرقة ووحدانا وهو صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه في رمضان ليلة ثم امتنع من ذلك معللا بأنه خشي أن يكتب عليهم فيعجزوا عن القيام به وهذا قد أمن بعده صلى الله عليه وسلم .
جامع العلوم و الحكم 1 / 266 – 267
قال المباركفوري صاحب تحفة الأحوذي : فقوله صلى الله عليه وسلم كل بدعة ضلالة من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء وهو أصل عظيم من أصول الدين وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه في التراويح نعمت البدعة . تحفة الأحوذي 7 / 366
قال الشاطبي : قال عمر بن الخطاب : نعمت البدعة هذا فأطلق عليها لفظ البدعة - كما ترى - نظراً - والله أعلم - إلى اعتبار الدوام وإن كان شهراً في السنة وأنه لم يقع فيمن قبله عملا دائما أو انه أظهره في المسجد الجامع مخالفا لسائر النوافل وإن كان ذلك واقعا في أصله كذلك فلما كان الدليل على ذلك القيام على الخصوص واضحاً قال نعمت البدعة هذه فحسنها بصيغة نعم التى تقتضى من المدح ما تقتضيه صيغة التعجب لو قال ما أحسنها من بدعة وذلك يخرجها قطعا عن كونها بدعة ، وعلى هذا المعنى جرى كلام أبى أمامة رضي الله عنه مستشهداً بالآية حيث قال أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم .
الاعتصام ج1/ص322 .
وقال أيضاً
فإن قيل: فقد سمّاها عمر بدعةً وحسنها بقوله: (( نِعْمَتِ البدعةُ هذه )) وإذا ثَبَتَتْ بدعةٌ ما مستحسنة في الشرع؛ ثبت مُطلقُ الاستحسانِ في الفرع 0
فالجوابُ: إنما سمّاها بدعةً باعتبار ظاهر الحال؛ من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتَّفق أنْ لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا أنَّها بدعةً في المعنى، فمن سمّاها بدعةً بهذا الاعتبار؛ فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك لا يجوز أن يُسْتَدَلَّ بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنَّه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه 0 الإعتصام 1/ 326_327
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وما خالف النصوص فهو بدعة باتفاق المسلمين وما لم يعلم أنه خالفها فقد لا يسمى بدعة قال الشافعي رحمه الله : البدعة بدعتان بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً وأثراً عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعه ضلاله وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر نعمت البدعة هذه هذا الكلام أو نحوه رواه البيهقي بإسناده الصحيح فى المدخل ويروى عن مالك رحمه الله أنه قال إذا قل العلم ظهر الجفا وإذا قلت الآثار كثرت الأهواء .
مجموع فتاوى ابن تيمية 20 / 163.
وقال : قال عمر نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها أفضل من التي تقومون يريد بذلك آخر الليل وكان الناس يقومون أوله
وهذا الاجتماع العام لما لم يكن قد فعل سماه بدعة لأن ما فعل ابتداء
يسمى بدعة في اللغة وليس ذلك بدعة شرعية فإن البدعة الشرعية التي هي ضلالة هي ما فعل بغير دليل شرعي كاستحباب ما لم يحبه الله وإيجاب ما لم يوجبه الله وتحريم ما لم يحرمه الله فلا بد مع الفعل من اعتقاد يخالف الشريعة وإلا فلو عمل الإنسان فعلا محرم يعتقد تحريمه لم يقل إنه فعل بدعة .
الرابع أن هذا لو كان قبيحاً منهياً عنه لكان علي أبطله لما صار أمير المؤمنين وهو بالكوفة فلما كان جاريا في ذلك مجرى عمر دل على استحباب ذلك بل روى عن علي أنه قال نور الله على عمر قبره كما نور علينا مساجدنا
وعن أبي عبد الرحمن السلمي أن عليا دعا القراء في رمضان فأمر رجلا منهم يصلى بالناس عشرين ركعة قال وكان علي يوتر بهم وعن عرفجة الثقفي قال كان علي يأمر الناس بقيام شهر رمضان ويجعل للرجال إماماً وللنساء إماماً قال عرفجة فكنت أنا إمام النساء رواهما البيهقي في سننه .
منهاج السنة النبوية ج8/ص307 – 308 .
وقال أيضاً
وأما قول عمر : (( نعمت البدعة هذه )) ..............نقول أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فعل ابتداء من غير مثال سابق وأما البدعة الشرعية فكل مالم يدل عليه دليل شرعي فإذا كان نص رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل على استحباب فعل أو إيجابه بعد موته أو دل عليه مطلقا ولم يعمل به إلا بعد موته ـ كفعل عمر وغيره ـ ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة : ليس بدعة في الشريعة وإن سمي بدعة في اللغة . فلفظ البدعة في اللغة أعم من لفظ البدعة في الشريعة . وقد علم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم : (( كل بدعة ضلالة )) لم يرد به كل عمل مبتدأ فإن دين الإسلام بل كل دين جاءت به الرسل فهو عمل مبتدأ وإنما أراد ما ابتديء من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم .
وإذا كان كذلك : فالنبي صلى الله عليه وسلم قد كانوا يصلون قيام رمضان على عهده جماعة وفرادى وقد قال لهم في الليلة الثالثة والرابعة لما اجتمعوا : (( إنه لم يمنعني أن أخرج إليكم إلا كراهة أن يفرض عليكم فصلوا في بيوتكم فإن أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )) فعلل صلى الله عليه وسلم عدم الخروج بخشية الافتراض فعلم بذلك أن المقتضى للخروج قائم وأنه لولا خوف الافتراض لخرج إليهم فلما كان في عهد عمر جمعهم على قارئ واحد واسرج المسجد فصارت هذه الهيئة وهي اجتماعهم في المسجد على إمام واحد مع الإسراج عملا لم يكونوا يعملونه من قبل فسمي بدعة لأنه في اللغة يسمى بذلك ولم يكن بدعة شرعية لأن السنة اقتضت أنه عمل صالح لولا خوف الافتراض وخوف الافتراض قد زال بموته صلى الله عليه وسلم فانتفى المعارض . اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام [2/95- 97]
وقال القرطبي : كل بدعة صدرت من مخلوق فلا يجوز أن يكون لها أصل في الشرع أولا فان كان لها أصل كانت واقعة تحت عموم ما ندب الله إليه وخص رسوله عليه فهي في حيز المدح وإن لم يكن مثاله موجودا كنوع من الجود والسخاء وفعل المعروف فهذا فعله من الأفعال المحمودة وإن لم يكن الفاعل قد سبق إليه ويعضد هذا قول عمر رضي الله عنه نعمت البدعة هذه لما كانت من أفعال الخير وداخلة في حيز المدح وهي وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صلاها إلا إنه تركها ولم يحافظ عليها ولا جمع الناس عليها فمحافظة عمر رضي الله عنه عليها وجمع الناس لها وندبهم إليها بدعة لكنها بدعة محمودة ممدوحة وإن كانت في خلاف ما أمر الله به ورسوله فهي في حيز الذم والإنكار قال معناه الخطابي وغيره قلت وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة يريد ما لم يوافق كتابا أو سنة أو عمل الصحابة رضي الله عنهم وقد بين هذا بقوله من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء وهذا إشارة إلى ما أبتدع من قبيح وحسن وهو أصل هذا الباب وبالله العصمة والتوفيق لا رب غيره .
تفسير القرطبي 2 / 87 .
قال العيني : البدعة على نوعين إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي بدعة حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي بدعة مستقبحة .
عمدة القاري شرح صحيح البخاري 11 / 126 .
قال الشوكاني : قوله فقال عمر نعمت البدعة قال في الفتح البدعة أصلها ما أحدث على غير مثال سابق وتطلق في الشرع على مقابلة السنة فتكون مذمومة والتحقيق أنها إن كانت مما يندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة وإن كانت مما يندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة وإلا فهي من قسم المباح وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة .
نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار 3 / 63 .
قال الحسن البصري : القصص بدعة ونعمت البدعة كم من أخ يستفاد ودعوة مجابة وسؤل معطى وعن بعضهم أنه سئل عن الدعاء عند ختم القرآن كما يفعله الناس اليوم قال بدعة حسنة .
الإنتصار لأصحاب الحديث لأبي المظفر التميمي ص: 28
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله (.. وقريباً من ذلك أن تكون العبادة من جهة الشرع مرتبة على وجه مخصوص فيريد بعض الناس أن يحدث فيها أمراً آخر لم يرد به الشرع زاعماً انه يدرجه تحت عموم فهذا لا يستقيم لأن الغالب على العبادات التعبد ومأخذها التوقيف وهذه الصورة حيث لايدل دليل على كراهة ذلك المحدث أو منعه فأما إذا دل فهو أقوى في المنع وأظهر من الأول ولعل مثال ذلك ماورد في رفع اليد في القنوت لأنه دعاء فيندرج تحت الدليل المقتضي لاستحبابه رفع اليد في الدعاء وقال غيره يكره لأن الغالب على هيئة العبادة التعبد والتوقيف والصلاة تصان عن زيادة عمل غير مشروع فيها فإذا لم يثبت الحديث في رفع اليد في القنوت كان الدليل الدال على صيانة الصلاة عن العمل الذي لم يشرع أخص من الدليل الدال على رفع اليد في الدعاء والتباين في هذا يرجع إلى الحرف الذي ذكرناه وهو إدراج الشيء المخصوص تحت العمومات أو طلب دليل خاص على ذلك الشيء الخاص وميل المالكية إلى هذا الثاني وقد ورد من السلف مايؤيده في مواضع ألاترى أن ابن عمر قال في صلاة الضحى أنها بدعة ولم ير إدراجها تحت عمومات الدعاء وكذلك ماروى الترمذي في قول عبد الله بن مغفل لابنه في الجهر بالبسملة (إياك والحدث ولم ير إدراجها تحت دليل عام وكذلك ما جاء عن ابن مسعود فيما أخرجه الطبراني في معجمه بسنده عن قيس قال (ذكر لابن مسعود قاص يجلس بالليل ويقول للناس قولوا كذا وقولوا كذا ...) فهذا ابن مسعود أنكر هذا الفعل مع أمكان إدراجه تحت عموم فضيلة الذكر على ما حكيناه في القنوت والجهر بالبسملة من باب الزيادة في العبادات)أحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام لابن دقيق العيد باب فضل صلاة الجماعة
الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان
قال الشاطبي : أيضاً هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدواً أكثر المصالح المرسلة بدعاً ونسبوها إلى الصحابة والتابعين وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة فقالوا إن منها ما هو واجب ومندوب وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارئ واحد ، وأيضا فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين فليس له على هذا شاهد شرعى على الخصوص ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة فإنها راجعة إلى امور في الدين مصلحية - في زعم واضعيها - في الشرع على الخصوص وإذا ثبت هذا فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا فاعتبار البدع المستحسنة حق لأنهم يجريان من واد واحد وإن لم يكن اعتبار البدع حقا لم يصح اعتبار المصالح المرسلة وأيضا فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا فيه بل قد اختلف عليه أهل الأصول على أربعة أقوال - فذهب القاضى وطائفة من الأصوليين إلى رده وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل وذهب مالك إلى اعتبار ذلك وبنى الأحكام عليه على الإطلاق وذهب الشافعى ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذى لم يستند إلى أصل صحيح لكن بشرط قربه من معانى الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني وذهب الغزالى إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله لكن بشرط قال ولا يبعد أن يؤدى إليه اجتهاد مجتهد واختلف قوله في الرتبة المتوسطة وهي رتبة الحاجي فرده في المستصفى هو آخر قوليه وقبله في شفاء الغليل كما قبل ما قبله وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله فالأقوال خمسة فإذا الراد لاعتبارها لايبقى له في الواقع له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة - كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الاجتماع لقيام رمضان نعمت البدعة هذه - إذ لا يمكنهم ردها لإجماعهم عليها وكذلك القول في الاستحسان فإنه - على ما المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل والنافي له لا يعد الاستحسان سببا فلا يعتبر في الأحكام البتة فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها فلما كان هذا الوضع مزلة قدم لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته - كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر بحول الله والله الموفق فنقول المعنى المناسب الذي يربط به الحكم لا يخلو من ثلاثة أقسام : أحدها أن يشهد الشرع بقبوله فلا إشكال في صحته ولا خلاف في إعماله وإلا كان مناقضة للشريعة كشريعة القصاص حفظا للنفوس والأطراف وغيرها ، والثاني ما شهد الشرع برده فلا سبيل إلى قبوله إذ المناسبة لا تقتضى الحكم لنفسها وإنما ذلك مذهب أهل التحسين العقلي بل إذا ظهر المعنى وفهمنا من الشرع اعتباره في اقتضاء الأحكام فحينئذ نقبله فإن المراد بالمصلحة عندنا ما فهم رعايته في حق الخلق من جلب المصالح ودرء المفاسد على وجه لا يستقل العقل بدركه على حال فإذا لم يشهد الشرع باعتبار ذلك المعنى بل يرده كان مردودا باتفاق المسلمين .
الاعتصام ج2/ص111- 113
وَاللَّهُ أَعْلَمُ