من جملة أساليب القرآن الكريم البيانية أسلوب التقابل بين الألفاظ، وذلك بأن يأتي باللفظ ويقابله بالضد، كمقابلة (الخير) بـ (الشر)، ومقابلة (الإيمان) بـ (الكفر)، ومقابلة (العدل) بـ (الظلم)، ومقابلة (الجنة) بـ (النار)، ونحو ذلك من الألفاظ المتقابلة.
ومن هذا القبيل المقابلة بين لفظ (اليسر) و(العسر). وحديثنا هنا يدور حول لفظ (العسر) في القرآن، ودِلالته ضمن سياقاته المختلفة. نتعرف على ذلك، بعد أن نقف على ما تقوله معاجم العربية حول المعنى اللغوي لهذا اللفظ.
يدل لفظ (العسر) لغة على صعوبة وشدة. وهو نقيض اليسر. والعسر: الخلاف والالتواء. ويقال: أمر عُسْر وعسير. ويوم عسير: أي صعب وشديد. وقالوا: رجل عُسْر: أي: صعب المزاج والمراس. وقالوا: عليك بالميسور، واترك ما عَسُر. وأعسر الرجل: إذا صار من ميسرة إلى عُسْرة. وعَسَرْتُه أعسره: إذا طالبته بالدَّيْن، وهو معسر، ولم تنظره إلى ميسرته. ويقال: عسرت عليه تعسيراً: إذا خالفته. والعسرى: خلاف اليسرى، وتعسر الأمر: التوى. ويقال: أعسرت المرأة: إذا عُسُر عليها ولادها. ويقال للذي يعمل بشماله: أعسر. والعسرى: هي الشمال، وإنما سميت عسرى؛ لأنه يتعسر عليها ما يتيسر على اليمنى. وتسميتهم إياها (يسرى) على طريقة التفاؤل.
ولفظ (العسر) ورد في القرآن الكريم في اثني عشر موضعاً، جاء في جميع مواضعه بصيغة الاسم، ولم يرد بصيغة الفعل، لكن جاء في موضع واحد بصيغة (المفاعلة)، وذلك قوله تعالى: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} (الطلاق:6).
ومواضع لفظ (العسر) وردت في القرآن الكريم في الآيات التالية، نذكرها، ونذكر المراد بلفظ (العسر) فيها ودِلالته في كل موضع من هذه المواضع:
قوله سبحانه: {ولا يريد بكم العسر} (البقرة:185)، أي: إنما رخص لكم في (الفطر) في حال المرض، وفي السفر، مع وجوبه في حق المقيم الصحيح؛ تيسيراً عليكم، ورحمة بكم، ودفعاً للضيق والمشقة عنكم. وقال القرطبي: هو بمعنى قوله: {يريد الله بكم اليسر}، فكُرِّر تأكيداً.
قوله سبحانه: {وإن كان ذو عسرة} (البقرة:280)، يعني: وإن كان الذي عليه الدين معسراً، لا مال لديه يؤدي به ما عليه، فيجب على صاحب الدين إنظاره إلى أن يصبح موسراً. فـ (العسرة) هنا: عدم القدرة على أداء الدين.
قوله تعالى: { لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة} (التوبة:117)، فـ (العسرة) صعوبة الأمر وشدته. قال جابر رضي الله عنه: اجتمع عليهم عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء. والمراد: ما كان عليه الصحابة في غزوة تبوك، فقد خرجوا في شدة من الأمر في سنة مجدبة، وحر شديد، وعسر من الزاد والماء. وكانت غزوة تبوك تسمى (غزوة العسرة)، والجيش يسمى (جيش العسرة).
قوله تعالى: {ولا ترهقني من أمري عسرا} (الكهف:73)، أي: لا تكلفني مشقة، يقال: أرهقته عسراً، أي: كلفته ذلك. يقول موسى للخضر عليه السلام: لا تضيق عليَّ أمري، وعاملني باليسر، ولا تعاملني بالعسر.
قوله تعالى: {وكان يوما على الكافرين عسيرا} (الفرقان:26)، أي: يوماً شديداً صعباً؛ لأنه يوم عدل، وقضاء فصل.
قوله تعالى: {يقول الكافرون هذا يوم عسر} (القمر:
، أي: يوم شديد الهول، عبوسٌ، قمطرير. والمراد: يوم القيامة لما ينالهم فيه من الشدة.
قوله تعالى: {سيجعل الله بعد عسر يسرا} (الطلاق:7)، أي: سيجعل الله للمطلق بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة، وبعد الكرب فَرَجٌ.
قوله سبحانه: {وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى} (الطلاق:6)، أي: وإن اختلف الرجل والمرأة، فطلبت المرأة أجرة الرضاع كثيراً، ولم يجبها الرجل إلى ذلك، أو بذل الرجل قليلاً، ولم توافقه عليه، فليسترضع له غيرها. فـ (التعاسر) في الآية، هو الاختلاف بين الزوجين حول أجرة الرضاع، أو الإرضاع نفسه.
قوله سبحانه: {فذلك يومئذ يوم عسير} (المدثر:9)، أي: فذلك اليوم يوم شديد. وهو بمعنى قوله تعالى: {هذا يوم عسر}.
قوله تعالى: {فسنيسره للعسرى} (الليل:10)، (العسرى) هنا: جهنم. وهو مقابل {لليسرى}، وهي الجنة، كذا قال البغوي والقرطبي وغيرهما.
قوله سبحانه: {فإن مع العسر يسرا * إن مع العسر يسرا} (الشرح:5-6)، أي: إن مع الضيقة والشدة يسراً، أي: سعة وغنى. ثم أكد هذا الخبر.
وبما تقدم تعلم أن لفظ (العسر) جاء في معظم مواضعه في القرآن الكريم يفيد الضيق، والمشقة، والشدة، وصعوبة الأمر، وجاء في موضع واحد بمعنى: النار. وجاء في موضع واحد بمعنى: الاختلاف.