قاربت
الشمس على المغيب ، وبدأ الظلام يرسل أول خيط له مازج الضوء الباهت الذي
آذن بالرحيل ، وبدأت الأنسام الباردة تخترق ثياب هؤلاء النفرالثلاثة
الجادّين في السير ، يريدون أن يصلوا إلى أقرب مأوى يقضون فيه ليلتهم هذه ،
ثم يتابعون رحلتهم إلى هدفهم .
كانوا بعيدين عن القرى مسافات كبيرة ،
قدّروا أنهم لن يستطيعوا الوصولَ إلى أوّلها إلا بعد ساعات من مسير ليليّ
غير محمود العواقب ، فقد يقعون في حفرة ، أو يدعمهم سيل جارف ، أو يَفجؤهم
مطر منهمر ، أو وحوش كاسرة .... والليل لا عيون له ، والنهار آمَنُ وآنَسُ.
فليبحثوا إذاً عن أقرب مكان يلوذون به ...
ولم يطل بهم البحث ، فعلى
مدىً يسير منهم ظهرت فجوة ترتفع عما حولها قليلاً ... فجدّوا السير إليها ،
وكانت مناسبة لهم ، ما إن دخلوها حتى شعروا بالدفء يسري في أوصالهم ،
والهدوءِ يَحوطهم ، والعتَمة تزحف عليهم ، فاستسلموا لنوم لذيذ . وما ألذّ
النوم بعد التعب ، والسكونَ بعد الحركة ... وغرقوا في أحلام وردية ،
وتخيّلوا أنفسهم في مرابعهم ، وبين أهليهم ، ولم يشعروا بما كان خارج كهفهم
من ريح اشتدّت حاملةً السحاب الماطر الذي أغرق المكان حولهم ، وحفر تحت
صخرة كبيرة كانت أعلى الكهف ، فتدحرجت بكلكلها ، لتستقر على باب الكهف ،
فتوقعَهم في مأزق لا خلاص منه إلا أن يشاء الله .
بدأت الشمس ترسل
أشعتها إلى الكهف من خلال فجَوات صغيرة تدغدغ النائمين ، وتوقظهم برفق ولطف
، وكأنها تقول لهم : يكفيكم ما أنتم عليه من غفلة ، قوموا لتبحثوا عن خلاص
من هذه المصيبة التي حلّت ، لا تدرون ما الله فاعل بكم إذا ثبتَتْ في
مكانها ... هيا انهضوا فادفعوها ، واسألوا الله العون ، والتمسوا رحمته .
إنهم
يتحركون ، لقد شرَعت الحياة تدب فيهم ، فتمددت أوصالهم هنا وهناك يمنة
ويسْرة ، فحمد أولهم ربّه أن أحياه بعد ما أماته – ولمّا يقم – وشكر الثاني
ربّه على نعمة الأمن والأمان – ولمّا يفتحْ عينيه – وصلى الثالث على موسى
وهارون اللذَين هداه الله بهما بعد أن ذكر الله ونهض ... ولكن أين النور
المنبثق ؟ أين الضياء يملأ المكان؟ .. كلها تساؤلات فرضتْها اللحظة التي
رأى جوّ الكهف فيها خانقاً ... هيّا يا صاحبيّ ، أنا عاجز عن فهم ما جرى
... نطقها سريعاً ، فقفزا فوراً كأنهما في سباق ، يستكشفان ما حلّ بهم ،
ويتعرّفان الموقف ، ففوجئا بما فوجئ به صاحبهما آنفاً .
اندفع أحدهما
نحو الصخرة ليبعدها عن الباب ، فارتدّ خائباً ... عاود الأمرَ فانتكس ،
جرّب صاحباه ، فلم يُفلحا ، وأنّى لمخلوق ضعيف أن يزحزح وتداً عظيماً من
أوتاد الأرض ؟!
تكاتف الثلاثة وأجمعوا قوّتهم ، وهاجموا الصخرة بعنف
ارتدّوا عنها بمثله ، أو أشدّ . فلما يئسوا من زحزحتها ، ورأوا الموت
المرعب يُطِلّ عليهم من بين فروضها عادوا إلى أنفسهم يفكّرون ، وعن مخرج
مما هم فيه يبحثون .
وشاء الله الرحيم بعباده أن ينجّيَهم ، فألهمهم
الدعاء له ، والالتجاء إليه . أليس سبحانه هو القائل : " وقال ربكم ادعوني
أستجِبْ لكم "؟ ! .. بلى والله .. يا من يجيب المضطر إذا دعاه ، ويكشف
السوء ؛ نجِّنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
وبدا الثلاثة يجأرون بالدعاء
، وكانوا صالحين ، فهداهم الله أن يسألوه بأفضل أعمالهم الخالصة لوجهه
الكريم ، التي ليس فيها مُراءاة ، ولايبغون بها سوى رضا الله وجنّته .
قال
رجل منهم : كنت بارّاً بوالديّ ، أكرمهما ، وأفضّلهما على أولادي وزوجتي ،
وأجتهد في خدمتهما . وعرف أهلي فيّ ذلك فساعدوني . وكان من عادتي أن
أسقيهما الحليب عِشاءً قبل الجميع ، فتأخّرت مرة في حقلي ، أقلّم الأشجار
وأعتني بالزرع ، ثم رُحت أحلب غبوقهما ، وانطلقتُ أسقيهما ، فوجدتهما
نائمَين ، فكرهت ان اوقظهما ، وان أغبق قبلهما أحداً من الأهل والرقيق ،
والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى بزغ الفجر ، والصبية حولي يتضاغَون من
الجوع ، ويصيحون عند قدمي ، وهم فلذة كبدي ، فتشاغلتُ عنهم حتى استيقظا
فشربا غبوقهما ، ثم سقيت أهلي وخدمي .... اللهم إن كنتُ فعلتُ هذا ابتغاء
وجهك الكريم ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة .. فانفرجت الصخرة شيئاً
لا يستطيعون الخروج منه .
وقال الثاني : أما أنا فقد كنت ميسور الحال ،
أحيا رغداً من العيش ، وليَ ابنة عمّ جميلة المُحيّا ، بهيّة الطلعة ،
أحبها ، وأرغب فيها ، فراودْتها عن نفسها ، فأبَتْ ، وبذلتُ لها المال ،
فتمنّعتْ ، أغريتها بشتّى الوسائل ، فلم أنل منها ما أبتغي . فحبست ألمي
وحسرتي في نفسي ، لا أنفرج إلا إذا نلتُها . ثم واتت الفرصة إذ جاءتني في
سنة جديبة تطلب المساعدة من ابن عمّها على فقرها ، فراودتني نفسي على
إغوائها ، واغتنمت حاجتَها وبؤسَها ، فأعطيتها مئة وعشرين ديناراً على أن
تخلّيَ بيني وبين نفسها ، ففعَلَتْ ... يا لهف نفسي ، ويا سعادتي ، إنني
قاب قوسين أو أدنى إلى اجتناء ثمرة صبري ... هاهي بين يدَيّ ، بل إنني منها
مقام الزوج مكان العفة من زوجته ، والشهوة تنتفض في كل ذرّة من جسمي ...
قالت والدمع يملأ مآقيها ، والحزن يتملّكها : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا
بحقّه . فالاتصال الزوجي قمة السعادة ، والحلال مَراحُ النفس وأُنسُ الروح ،
أما الزنا فلذّة اللحظة ، وندم الحياة ، وذلّ الآخرة . .. دقّ قلبي رافضاً
، وختلجت أوصالي آبية الوقوع في الإثم ، ورأيتُ بعينَيْ قلبي غضب ربي ،
فقمت عنها منصرفاً ، وتركت لها المال راغباً في عفو الله ومرضاته . ..
اللهم ؛ إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك الكريم فافرُج عنا ما نحن فيه ....
فانفرجت الصخرة ، غير أنهم لا يستطيعون الخروجَ منها .
وتقدّم الثالث ،
فقال : اشتغل عندي عدد من الأُجراء ، وأعطيتُهم أجرَهم غير واحدٍ ترك أجره
وذهب . فقلت : في نفسي : قد ترك الأجير حقه ، فانا أولى به . وقال لي
الشيطان : ليس له عندك شيء .. وتحرك الإيمان في قلبي ، فأمرني أن أحتفظ
بأجره ليأخذه إن عاد ... ارتحت لهذا القرار ، فأمرني إيماني ثانية حين رأى
تجاوبي للخير : بل ثمّر له أجره . .. فأشركتُه في عملي حتى كثرت الأموال
والإبل والبقر والغنم والرقيقُ ، وملأ المكانَ . فجاءني بعد حين فقال : يا
عبد الله ؛ أدِّ إليّ أجري . فقلت : كلّ ما ترى في هذا الوادي لك ، فخذه .
فقال الأجير : أتهزأ بي ؟! أهذا جزائي منك حين انشغلتُ ابتداءً فلم آخذ حقي
؟! فقلت له : إني لا أستهزئ بك ... وأخبرتُه أنني جادٌّ في قولي ، فقد
ثمّرتُ أجره . فلما وثقَ صدقَ حديثي أخذ ماله وانطلق ، فاستاقه ، ولم يترك
منه شيئاً . .. اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك ، فافرج عنا ما نحن فيه
.. فانفرجت الصخرة ، فخرجوا يمشون .
متفق عليه رياض الصالحين ، باب التوبة
مع تحيات FOoFOo