أسماء بنت أبي بكر
هي أم عبد الله بن الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه،
وأمها قتيلة بنت عبد العزى العامرية.
وهي أخت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها.وكانت أسن منها ببضع عشرة سنة،
وهي آخر المهاجرات وفاة.
أسلمت رضي الله عنها بعد إسلام سبعة عشر إنساناً، وبايعت النبي صلى الله عليه وسلم وآمنت به؛
فمن
حسن إسلامها أن أمها – وكان أبو بكر قد طلقها في الجاهلية – قدمت عليها
لزيارتها فأبت أن تدخلها البيت أو تقبل هديتها إلى أن أذن لها رسول الله
صلى الله عليه وسلم في ذلك،
ففي الصحيحين عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:
« قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ،
قلت: إن أمي قدِمت وهي راغبة، أفأصل أمي؟
قال: "نعم صِلِي أمك" »
(أخرجه البخاري ومسلم).
كانت رضي الله عنها تدعى ذاتَ النطاقين؛
لأنها
شقت نطاقها إلى قسمين ليسهل عليها حمل وإخفاء ما كانت تنقل إلى الغار من
طعام وشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الهجرة،
فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعلت بنطاقها لقبها
بذات النطاقين.
ولما توجه رسول الله من مكة إلى المدينة مهاجراً برفقة أبيها
حمل أبو بكر معه جميع ماله – خمسة آلاف أو ستة آلاف – فأتاها جدها أبو قحافة وقد ذهب بصره،
فقال:
إن هذا قد فجعكم بماله ونفسه، فكان من الفتاة الذكية الشجاعة إلا أن قالت:
"كلا، قد ترك لنا خيراً كثيراً،"
ثم عمدت إلى أحجار فجعلتهن في كوة في البيت وغطت عليها بثوب،
ثم أخذت بيده ووضعتها على الثوب،
وقالت:
هذا تركه لنا، فقال: أما إذ ترك لكم هذا فنعم،
وبذلك هدَّأت من روع الشيخ الكبير وأطفأت ثورته، وبعثت الطمأنينة في نفسه.
وقد تعرضت ذات النطاقين إلى الأذى والمحن في صغرها وكبرها، لكنها كانت مثال الصبر والتضحية والفداء.
لما جاءها عدو الله أبو جهل يستدرجها لتبوح بسر أبيها ومكان وجوده لاذت بالصمت ولم تزد عن قول لا أدري،
فما كان من عدو الله إلا أن لطمها لطمة قاسية خر منها قرطها،
ثم تركها وانصرف وهو يتميز غيظاً أمام إصرارها واستمساكها بالحق.
ولم تمض فترة طويلة حتى لحقت أسماء بموكب الهجرة، وهناك وضعت ابنها عبد الله،
وكان أول مولود في الإسلام.
هذا ولقد ضربت ذات النطاقين مثلا حيّاً ونموذجا طيبا في الصبر على شظف العيش والحرمان الشديد،
والحرص على طاعة الزوج والتحري في مرضاته؛
فقد جاء في الحديث الصحيح قولها:
« تزوجني الزبير وماله شيء غير فرسه، فكنت أسوسه وأعلفه، وأدق لناضحه النوى، وأستسقي وأعجن،
وكنت أنقل النوى من أرض الزبير التي اقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وهي على ثلثي فرسخ،
فجئت يوما والنوى على رأسي، فلقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه نفر فدعاني، فقال:
” أخٍ. أخٍ، ليحملني خلفه فاستحييت وذكرت الزبير وغيرته. قالت:
فمضى. فلما أتيت، أخبرت الزبير فقال:
والله لحملك النوى كان أشدّ عليّ من ركوبك معه! قالت:
حتى أرسل إليَّ أبو بكر بعد بخادم، فكفتني سياسة الفرس، فكأنما أعتقني ».
وبعد هذا الصبر كله، كانت العاقبة أن انصبت عليها وعلى زوجها النعم، ولكنها لم تبطر بالغنى،
بل كانت سخية كريمة لا تدخر شيئاً لغد، وكانت إذا مرضت تنتظر حتى تنشط فتعتق كل مملوك لها،
وتقول لبناتها ولأهلها:
"أنفقوا وتصدقوا ولا تنتظروا الفضل."
وكانت رضي الله عنها شجاعة لا تخاف في الله لومة لائم،
فقد شاركت يوم اليرموك في القتال وفعلت فعل الأبطال.
ولما كثر اللصوص في المدينة أيام سعيد بن العاص، اتخذت أسماء خنجراً كانت تجعله تحت رأسها.
وقد قيل لها: ما تصنعين بهذا ؟ قالت:
" إن دخل عليَّ لصّ بعجت بطنه."
وأما
مضاء العزيمة وعزة النفس عند أسماء رضي الله عنها فنعرفها من خلال كلماتها
لابنها عبد الله لما دخل عليها ليستشيرها لما حاصر الحجاج مكة،
وكانت أسماء آنذاك عجوزاً مكفوفة قد قاربت المائة.
فقال لها عبد الله:
يا أماه قد خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير ممن ليس عنده من الدفع أكثر من صبر ساعة،
والقوم يعطونني من الدنيا ما أردت فما رأيك ؟
وأمام هذا الامتحان العسير للأمومة سقطت العواطف الجياشة ونجحت العزة والكرامة وهي تجيب:
« أنت والله أعلم بنفسك يا بني. إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له،
فقد قتل عليه أصحابك، ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية،
وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت، أهلكت نفسك، وأهلكت من قتل معك...
فقال عبد الله : هذا والله رأي يا أماه، ولكن أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني
فأجابته: يا بني، إن الشاة لا يضيرها سلخها بعد ذبحها، فامض على بصيرتك، واستعن بالله."
ولما دنت منه لتودعه وتضمه إلى صدرها، وقعت يدها على درعه، فقالت :
"ما هذا يا عبد الله صنع من يريد ما تريد !"
فنزع درعه وخرج للقتال وظل يقاوم ويكر حتى سقط شهيداً؛ فأمر الحجاج بصلب جثمانه، ثم دخل على أسماء وقال لها:
يا أمه، إن أمير المؤمنين أوصاني بك، فهل لك من حاجة ؟
قالت :
"لست لك بأم ، ولكني أم المصلوب على رأس التينة، وما لي من حاجة،
ولكن أحدثك: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
« يخرج في ثقيف كذاب ومبير، فأما الكذاب فقد رأيناه – تعني المختار – وأما المبير فأنت».
وذكرت بعض الروايات أن الحجاج لما دخل على أسماء رضي الله عنها قال لها متشفياً :
كيف رأيتني صنعت بابنك يا أسماء ؟ فقالت بهدوء:
"أفسدت عليه دنياه، وأفسد عليك آخرتك."
وتوفيت أسماء رضي الله عنها بمكة بعد مقتل ابنها عبد الله بليال، عام ثلاث وسبعين للهجرة ولم يسقط لها سن، ولم ينكر لها عقل.
فرحم الله أسماء ذات النطاقين فقد كانت بحق مثالاً يحتذى به، ونموذجا طيباً يضرب به المثل.