حقيقة التوحيد والشرك
الحمد
لله رب العالمين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على عبده
ورسوله وخيرته من خلقه، وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد
الله بن عبد المطلب الهاشمي العربي المكي ثم المدني، وعلى آله وأصحابه،
ومن سلك سبيله، واهتدى بهداه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله عز وجل
خلق الخلق ليعبدوه وحده لا شريك له، وأرسل الرسل لبيان هذه الحكمة والدعوة
إليها، وبيان تفصيلها، وبيان ما يضادها، هكذا جاءت الكتب السماوية، وأرسلت
الرسل البشرية من عند الله عز وجل للجن والإنس، وجعل الله سبحانه هذه الدار
طريقاً للآخرة، ومعبراً لها، فمن عمرها بطاعة الله وتوحيده واتباع رسله
عليهم الصلاة والسلام، انتقل من دار العمل وهي الدنيا، إلى دار الجزاء وهي
الآخرة، وصار إلى دار النعيم والحبرة والسرور، دار الكرامة والسعادة، دار
لا يفنى نعيمها، ولا يموت أهلها، ولا تبلى ثيابهم، ولا يخلق شبابهم، بل في
نعيم دائم، وصحة دائمة، وشباب مستمر، وحياة طيبة سعيدة، ونعيم لا ينفد،
ينادي فيهم من عند الله عز وجل: ((يا أهل الجنة إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا
أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا
أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبتئسوا أبدا)) هذه حالهم ولهم فيها ما
يشتهون، ولهم فيها ما يدعون. {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}[1]، ولهم فيها
لقاء مع الله عز وجل كما يشاء، ورؤية وجهه الكريم جل وعلا. أما من خالف
الرسل في هذه الدار، وتابع الهوى والشيطان، فإنه ينتقل من هذه الدار إلى
دار الجزاء، دار الهوان والخسران، والعذاب والآلام والجحيم، التي أهلها في
عذاب وشقاء دائم، {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ
عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا}[2] كما قال عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ
رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا
يَحْيَا}[3]، وقال فيها أيضا: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ
كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ
مُرْتَفَقًا}[4]، وقال فيها جل وعلا: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ
أَمْعَاءَهُمْ}[5]، والمقصود أن هذه الدار هي دار العمل، وهي دار التقرب
إلى الله عز وجل بما يرضيه، وهي دار الجهاد للنفوس، وهي دار المحاسبة، ودار
التفقه والتبصر في الدين، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق
والصبر عليه، والعلم والعمل، والعبادة والمجاهدة، قال الله سبحانه وتعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ
مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[6].
فخلق الله الجن والإنس
وهما الثقلان: لعبادته عز وجل، لم يخلقهم سبحانه لحاجة به إليهم، فإنه
سبحانه هو الغني بذاته عن كل ما سواه، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ * إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ}[7] ولم يخلقهم ليتكثر بهم من قلة، أو يعتز
بهم من ذلة، ولكنه خلقهم سبحانه لحكمة عظيمة، وهي أن يعبدوه ويعظموه،
ويخشوه ويثنوا عليه سبحانه بما هو أهله، ويعلموا أسماءه وصفاته، ويثنوا
عليه بذلك، وليتوجهوا إليه بما يحب من الأعمال والأقوال، ويشكروه على
إنعامه، ويصبروا على ما ابتلاهم به، وليجاهدوا في سبيله، وليتفكروا في
عظمته، وما يستحق عليهم من العمل، كما قال عز وجل: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ
بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[8]، وقال تعالى:
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}[9]، وقال تعالى:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ
اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي
خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا
سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[10]، فأنت يا عبد الله مخلوق في هذه
الدار، لا لتبقى فيها، ولا لتخلد فيها، ولكنك خلقت فيها لتنقل منها بعد
العمل، وقد تنقل منها قبل العمل، وأنت صغير لم تبلغ، ولم يجب عليك العمل
لحكمة بالغة. فالمقصود أنها دار ممزوجة بالشر والخير، ممزوجة بالأخلاط من
الصلحاء وغيرهم، ممزوجة بالأكدار والأفراح والنافع والضار، وفيها الطيب
والخبيث، والمرض والصحة، والغنى والفقر، والكافر والمؤمن، والعاصي
والمستقيم، وفيها أنواع من المخلوقات خلقت لمصلحة الثقلين كما قال تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}[11].
والمقصود
من هذه الخليقة كما تقدم: أن يعظم الله، وأن يطاع في هذه الدار، وأن يعظم
أمره ونهيه، وأن يعبد وحده سبحانه وتعالى بطاعة أوامره، وترك نواهيه، وقصده
سبحانه في طلب الحاجات، وعند الملمات، ورفع الشكاوى إليه، وطلب الغوث منه،
والاستعانة به في كل شيء، وفي كل أمر من أمور الدنيا، والآخرة.
فالمقصود
من خلقك وإيجادك يا عبد الله، هو توحيده سبحانه، وتعظيم أمره ونهيه، وأن
تقصده وحده في حاجاتك، وتستعين به على أمر دينك ودنياك وتتبع ما جاء به
رسله، وتنقاد لذلك طائعاً مختاراً، محباً لما أمر به، كارهاً لما نهى عنه،
ترجو رحمة ربك، وتخشى عقابه سبحانه وتعالى.
والرسل أرسلوا إلى العباد
ليعرفوهم هذا الحق، ويعلموهم ما يجب عليهم، وما يحرم عليهم، حتى لا يقولوا
ما جاءنا من بشير ولا نذير، بل قد جاءتهم الرسل مبشرين ومنذرين، كما قال
سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا
اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[12]، وقال تعالى: {رُسُلًا
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ
حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}[13]، وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
فَاعْبُدُونِ}[14]. فهم قد أرسلوا ليوجهوا الثقلين لما قد أرسلوا به،
ويرشدوهم إلى أسباب النجاة ولينذروهم أسباب الهلاك، وليقيموا عليهم الحجة،
ويقطعوا المعذرة، والله سبحانه يحب أن يمدح، ولهذا أثنى على نفسه بما هو
أهله، وهو غيور على محارمه، ولهذا حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فعليك
أن تحمده سبحانه، وتثني عليه بما هو أهله، فله الحمد في الأولى والآخرة.
وعليك أن تثني عليه بأسمائه وصفاته، وأن تشكره على إنعامه، وأن تصبر على ما
أصابك، مع أخذك بالأسباب التي شرعها الله وأباحها لك. وعليك أن تحترم
محارمه، وأن تبتعد عنها، وأن تقف عند حدوده طاعة له سبحانه ولما جاءت به
الرسل. وعليك أن تتفقه في دينك، وأن تتعلم ما خلقت له وأن تصبر على ذلك حتى
تؤدي الواجب على علم وعلى بصيرة، قال صلى الله عليه وسلم: ((من يرد الله
به خيراً يفقهه في الدين)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((من سلك طريقاً يلتمس
فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)) خرجهما مسلم في صحيحه.
وأعظم
الأوامر وأهمها توحيده سبحانه، وترك الإشراك به عز وجل، وهذا هو أهم
الأمور، وهو أصل دين الإسلام، وهو دين الرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم، وهو
توحيد الله وإفراده بالعبادة، دون كل من سواه.
هذا هو أصل الدين، وهو
دين الرسل جميعاً من أولهم نوح، إلى خاتمهم محمد عليهم الصلاة والسلام، لا
يقبل الله من أحد ديناً سواه، وهو الإسلام.
وسمي إسلاماً لما فيه من
الاستسلام لله، والذل له، والعبودية له، والانقياد لطاعته، وهو توحيده
والإخلاص له. مستسلماً له جل وعلا، وقد أسلمت وجهك لله، وأخلصت عملك لله،
ووجهت قلبك إلى الله في سرك وعلانيتك، وفي خوفك وفي رجائك، وفي قولك وفي
عملك، وفي كل شأنك. تعلم أنه سبحانه هو الإله الحق، والمستحق لأن يعبد
ويطاع ويعظم لا إله غيره ولا رب سواه. وإنما تختلف الشرائع كما قال سبحانه:
{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا}[15]. أما دين الله
فهو واحد، وهو دين الإسلام، وهو إخلاص العبادة لله وحده، وإفراده بالعبادة:
من دعاء وخوف ورجاء وتوكل، ورغبة ورهبة، وصلاة وصوم وغير ذلك، كما قال
سبحانه وبحمده: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ}[16] أي
أمر ألا تعبدوا إلا إياه، وقال سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ}[17] أخبر عباده بهذا ليقولوه وليعترفوا به. فعلمهم كيف يثنون
عليه، فقال عز من قائل: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}[18] علمهم هذا الثناء
العظيم، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}[19] وجههم إلى هذا سبحانه وتعالى،
فيثنوا عليه بما هو أهله من الحمد والاعتراف بأنه رب العالمين، والمحسن
إليهم، ومربيهم بالنعم، وأنه الرحمن وأنه الرحيم، وأنه مالك يوم الدين،
وهذا كله حق لربنا عز وجل. ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ}[20] إياك نعبد وحدك، وإياك نستعين وحدك، لا رب ولا معين سواك،
فجميع ما يقع من العباد هو من الله، وهو الذي سخرهم وهو الذي هيأهم لذلك،
وأعانهم على ذلك، وأعطاهم القوة على ذلك، ولهذا يقول جل وعلا: {وَمَا
بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ}[21] فهو سبحانه المنعم، وهو المستعان
والمعبود بالحق جل وعلا. فأنت يا عبد الله إذا جاءتك نعمة على يد صغير أو
كبير أو مملوك أو ملك، أو غيره، فكله من نعم الله جل وعلا، وهو الذي ساق
ذلك ويسره سبحانه، خلق من جاء بها وساقها على يديه، وحرك قلبه ليأتيك بها،
وأعطاه القوة والقلب والعقل، وجعل في قلبه ما جعل حتى أوصلها إليك.
فكل
النعم من الله جل وعلا مهما كانت الوسائل، وهو المعبود بالحق، وهو الخالق
للعباد، وهو مربيهم بالنعم، وهو الحاكم بينهم في الدنيا والآخرة، وهو
الموصوف بصفات الكمال المنزه عن صفات النقص والعيب، واحد في ربوبيته، واحد
في ألوهيته، واحد في أسمائه وصفاته، جل وعلا، وهو سبحانه له التوحيد من
جميع الوجوه، له الوحدانية في خلقه العباد، وتدبيره لهم، ورزقه لهم،
وتصريفه لشئونهم، لا يشاركه في ذلك أحد سبحانه وتعالى، يدبر الأمر جل وعلا،
كما قال جل وعلا: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ وَكِيلٌ}[22]، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو
الْقُوَّةِ الْمَتِينُ}[23]، وقال سبحانه: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ
الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ
بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا
تَذَكَّرُونَ * إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا}[24] الآية، فهو المستحق
للعبادة لكمال إنعامه، وكمال إحسانه، ولكونه الخلاق والرزاق ولكونه مصرف
الأمور ومدبرها، ولكونه الكامل في ذاته وصفاته وأسمائه. فلهذا استحق
العبادة على جميع العباد واستحق الخضوع عليهم. والعبادة هي الخضوع والذل،
وسمي الدين عبادة لأن العبد يؤديه بخضوع لله، وذل بين يديه، ولهذا قيل
للإسلام عبادة. تقول العرب: طريق معبد، يعني مذلل، قد وطأته الأقدام، حتى
صار لها أثر بيّن يعرف، ويقال: بعير معبد أي قد شد ورحل عليه، حتى صار له
أثر فصار معبدا.
والعبد هو: الذليل المنقاد لله المعظم لحرماته، وكلما كان العبد أكمل معرفة بالله وأكمل إيمانا به، صار أكمل عبادة.
ولهذا كان الرسل أكمل الناس عبادة؛ لأنهم أكملهم معرفة وعلما بالله، وتعظيما له من غيرهم، صلوات الله وسلامه عليهم.
ولهذا
وصف الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالعبودية في أشرف مقاماته، فقال
سبحانه: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ}[25] وقال تعالى:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ}[26]، وقال
تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ}[27] إلى غير
ذلك. فالعبودية مقام عظيم وشريف، ثم زادهم الله فضلا من عنده سبحانه
بالرسالة التي أرسلهم بها، فاجتمع لهم فضلان: فضل الرسالة، وفضل العبودية
الخاصة. فأكمل الناس في عبادتهم لله، وتقواهم له، هم الرسل والأنبياء عليهم
الصلاة والسلام، ثم يليهم الصديقون الذين كمل تصديقهم لله ولرسله،
واستقاموا على أمره، وصاروا خير الناس بعد الأنبياء، وعلى رأسهم أبو بكر
الصديق رضي الله عنه، فهو رأس الصديقين، وأكملهم صديقية، بفضله وتقواه،
وسبقه إلى الخيرات وقيامه بأمر الله خير قيام، وكونه قرين رسول الله صلى
الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، ومساعده بكل ما استطاع من قوة رضي الله
عنه وأرضاه.
فالمقصود أن مقام العبودية، ومقام الرسالة هما أشرف
المقامات، فإذا ذهبت الرسالة بفضلها، بقي مقام الصديقية بالعبادة. فأكمل
الناس إيمانا وصلاحا وتقوى وهدى، هم الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام
لكمال علمهم بالله، وعبادتهم له، وذلهم لعظمته جل وعلا، ثم يليهم الصديقون
ثم الشهداء، ثم الصالحون كما قال جل وعلا: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ
أُولَئِكَ رَفِيقًا}[28] ولا بد مع توحيد الله من تصديق رسله، ولهذا لما
بعث الله نبيه محمدا عليه الصلاة والسلام، صار يدعو الناس أولا إلى توحيد
الله وإلى الإيمان بأنه رسوله عليه الصلاة والسلام. فلا بد من أمرين: توحيد
الله والإخلاص، ولا بد مع ذلك من تصديق الرسل عليهم الصلاة والسلام. فمن
وحد الله، ولم يصدق الرسل فهو كافر، ومن صدقهم ولم يوحد الله فهو كافر، فلا
بد من الأمرين: توحيد الله وتصديق رسله عليهم الصلاة والسلام. والاختلاف
في هذا المقام هو في الشرائع، وأما توحيد الله والإخلاص له، وترك الإشراك
به، وتصديق رسله، فهو أمر لا اختلاف فيه بين الأنبياء، بل لا إسلام ولا دين
ولا هدى ولا نجاة إلا بتوحيد الله عز وجل، وإفراده بالعبادة، والإيمان بما
جاء به رسله عليهم الصلاة والسلام، جملة وتفصيلا.
فمن وحد الله جل
وعلا، ولم يصدق نوحا في زمانه، أو إبراهيم في زمانه، أو هودا أو صالحا أو
إسماعيل أو إسحاق أو يعقوب أو من بعدهم إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
فهو كافر بالله عز وجل، حتى يصدق جميع الرسل، مع توحيده لله عز وجل.
فالإسلام في زمن آدم هو توحيد الله مع إتباع شريعة آدم عليه الصلاة
والسلام، والإسلام في زمن نوح هو توحيد الله مع إتباع شريعة نوح عليه
الصلاة والسلام، والإسلام في زمن هود هو توحيد الله مع إتباع شريعة هود
عليه الصلاة والسلام، والإسلام في زمن صالح هو توحيد الله مع إتباع شريعة
صالح عليه الصلاة والسلام، حتى جاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فكان
الإسلام في زمانه هو توحيد الله مع الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه
وسلم، وإتباع شريعته. فاليهود والنصارى لما لم يصدقوا محمداً عليه الصلاة
والسلام، صاروا بذلك كفاراً ضلالاً، وإن فرضنا أن بعضهم وحد الله، فإنهم
ضالون كفار بإجماع المسلمين، لعدم إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، فلو
قال شخص إني أعبد الله وحده، وأصدق محمدا في كل شيء إلا في تحريم الزنا،
بأن جعله مباحا، فإنه يكون بهذا كافرا حلال الدم والمال بإجماع المسلمين،
وهكذا لو قال: إنه يوحد الله ويعبده وحده دون كل من سواه، ويصدق الرسل
جميعا، وعلى رأسهم محمد صلى الله عليه وسلم إلا في تحريم اللواط، وهو إتيان
الذكور، صار كافرا حلال الدم والمال بإجماع المسلمين، بعد إقامة الحجة
عليه إذا كان مثله يجهل ذلك، ولم ينفعه توحيده ولا إيمانه؛ لأنه كذب
الرسول، وكذب الله في بعض الشيء.
وهكذا لو وحد الله، وصدق الرسل، ولكن
استهزأ بالرسول في شيء، أو استنقصه في شيء أو بعض الرسل، صار كافرا بذلك،
كما قال جل وعلا: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ
تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ
إِيمَانِكُمْ}[29] ثم إن ضد هذا التوحيد هو الشرك بالله عز وجل، فإن كل شيء
له ضد، والضد يبين بالضد قال بعض الشعراء:
والضد يظهر حسنه الضد
***
وبضدها تتميز الأشياء
فالشرك
بالله عز وجل، هو ضد التوحيد الذي بعث الله به الرسل عليهم الصلاة
والسلام، فالمشرك مشرك؛ لأنه أشرك مع الله غيره، فيما يتعلق بالعبادة لله
وحده، أو فيما يتعلق بملكه وتدبيره العباد، أو بعدم تصديقه فيما أخبر أو
فيما شرع، فصار بذلك مشركاً بالله، وفيما وقع منه من الشرك.
وتوحيد الله
عز وجل الذي هو معنى لا إله إلا الله، يعني أنه لا معبود بحق إلا الله،
فهي تنفي العبادة عن غير الله بالحق، وتثبتها لله وحده، كما قال سبحانه:
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ
الْبَاطِلُ}[30]، وقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا
اللَّهُ}[31]، وقال سبحانه: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ
وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[32]، وقال سبحانه: {وَقَالَ اللَّهُ لا
تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ}[33]،
فتوحيد الله هو إفراده بالعبادة عن إيمان، وعن صدق، وعن عمل، لا مجرد كلام.
ومع اعتقاده بأن عبادة غيره باطلة، وأن عباد غيره مشركون، ومع البراءة
منهم، كما قال عز وجل: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي
إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ
مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ
وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا
حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ}[34]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ *
إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}[35] فتبرأ من عبّاد غير
الله، ومما يعبدون.
فالمقصود أنه لا بد من توحيد الله، بإفراده بالعبادة
والبراءة من عبادة غيره، وعابدي غيره، ولا بد من اعتقاد وبطلان الشرك، وأن
الواجب على جميع العباد من جن وإنس، أن يخصوا الله بالعبادة، ويؤدوا حق
هذا التوحيد بتحكيم شريعة الله، فإن الله سبحانه وتعالى هو الحاكم، ومن
توحيده الإيمان والتصديق بذلك، فهو الحاكم في الدنيا بشريعته، وفي الآخرة
بنفسه سبحانه وتعالى كما قال جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ}[36]،
وقال تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ}[37]، وقال
سبحانه: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى
اللَّهِ}[38]. وصرف بعض العبادة للأولياء أو الأنبياء أو الشمس والقمر، أو
الجن أو الملائكة، أو الأصنام أو الأشجار أو غير ذلك، كل هذا ناقض لتوحيد
الله، ومبطل له.
وإذا علم أن الله سبحانه بعث نبيه محمداً صلى الله عليه
وسلم، والأنبياء قبله إلى أمم يعبدون غير الله، منهم من يعبد الأنبياء
والصالحين، ومنهم من يعبد الأشجار والأحجار، ومنهم من يعبد الأصنام
المنحوتة، ومنهم من يعبد الكواكب إلى غير ذلك، فقد دعوهم كلهم إلى توحيد
الله، والإيمان به سبحانه، وأن يقولوا: لا إله إلا الله، وأن يبرءوا مما
يخالفها، وأن يبرءوا من عابدي غير الله، ومن معبوداتهم، وأن من صرف بعض
العبادة لغيره فما وحده كما قال الله سبحانه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي
كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا
الطَّاغُوتَ}[39]. وبهذا تعلم أن ما يصنع حول القبور المعبودة من دون الله.
مثل قبر البدوي، والحسين بمصر وأشباه ذلك، وما يقع من بعض الجهال من
الحجاج وغيرهم عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من طلب المدد والنصر على
الأعداء، والاستغاثة به والشكوى إليه ونحو ذلك، أن هذه عبادة لغير الله عز
وجل، وأن هذا شرك الجاهلية الأولى، وهكذا ما قد يقع من بعض الصوفية من
اعتقادهم أن بعض الأولياء يتصرف في الكون ويدبر هذا العالم والعياذ بالله
شرك أكبر في الربوبية. وهكذا ما يقع من اعتقاد بعض الناس، أن بعض المخلوقات
له صلة بالرب عز وجل، وأنه يستغني بذلك عن متابعة الرسول محمد صلى الله
عليه وسلم، أو أنه يعلم الغيب، أو أنه يتصرف في الكائنات، وما أشبه ذلك،
فإنه كفر بالله أكبر، وشرك ظاهر، يخرج صاحبه من الملة الإسلامية إن كان
ينتسب إليها.
فلا توحيد ولا إسلام ولا إيمان ولا نجاة إلا بإفراد الله
بالعبادة، والإيمان بأنه مالك الملك، ومدبر الأمور، وأنه كامل في ذاته
وصفاته وأسمائه وأفعاله، لا شريك له، ولا شبيه له، ولا يقاس بخلقه عز وجل،
فله الكمال المطلق في ذاته وصفاته وأفعاله، وهو مدبر الملك جل وعلا، لا
شريك له، ولا معقب لحكمه.
هذا هو توحيد الله، وهذا هو إفراده بالعبادة،
وهذا هو دين الرسل كلهم، وهذا معنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}[40] يعني: إياك نوحد ونطيع ونرجو ونخاف، كما قال
ابن عباس رضي الله عنهما: نعبدك وحدك، ونرجوك ونخافك.
وإياك نستعين على
طاعتك، وفي جميع أمورنا. فالعبادة هي توحيد الله عز وجل والإخلاص له في
طاعة أوامره، وترك نواهيه سبحانه وتعالى، مع الإيمان الكامل بأنه مستحق
للعبادة وأنه رب العالمين المدبر لعباده، والمالك لكل شيء، والخالق لكل
شيء، وأنه الكامل في ذاته، وأسمائه وصفاته وأفعاله، ولا نقص فيه، ولا عيب
فيه، ولا مشارك له في شيء من ذلك، سبحانه وتعالى، بل له الكمال المطلق في
كل شيء جل وعلا.
ومن هذا نعلم أنه لا بد من تصديق الرسل جميعاً فيما
جاءوا به، وعلى رأسهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه متى أخلص العبد
العبادة لله وحده، وصدق رسله عليهم الصلاة والسلام، ولاسيما محمد صلى الله
عليه وسلم، وانقاد لشرعه واستقام عليه، إلا في واحد أو أكثر من نواقض
الإسلام فإنه تبطل عبادته، ولا ينفعه ما معه من أعمال الإسلام.
فلو أنه
صدق محمداً في كل شيء، وانقاد لشريعته في كل شيء لكن قال مع ذلك: مسيلمة
رسول مع محمد - أعني مسيلمة الكذاب الذي خرج في اليمامة وقاتله الصحابة في
عهد الصديق رضي الله عنه - بطلت هذه العقيدة، وبطلت أعماله ولم ينفعه صيام
النهار، ولا قيام الليل، ولا غير ذلك من عمله؛ لأنه أتى بناقض من نواقض
الإسلام، وهو تصديقه لمسيلمة الكذاب، لأن ذلك يتضمن تكذيب الله سبحانه في
قوله عز وجل: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ
رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[41] كما تضمن تكذيب الرسول صلى
الله عليه وسلم في قوله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث المتواترة عنه عليه
الصلاة والسلام، بأنه خاتم الأنبياء ولا نبي بعده.
وهكذا من صام
النهار، وقام الليل، وتعبد وأفرد الله بالعبادة، واتبع الرسول صلى الله
عليه وسلم، ثم بعد ذلك في أي وقت من الأوقات صرف بعض العبادة لغير الله،
كأن يجعل بعض العبادة للنبي، أو للولي الفلاني، أو للصنم الفلاني، أو للشمس
أو للقمر أو للكوكب الفلاني أو نحو ذلك، يدعوه ويطلب منه النصر، ويستمد
العون منه، بطلت أعماله التي سبقت كلها، حتى يعود إلى التوبة إلى الله عز
وجل كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ}[42]، وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى
الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ
وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[43]، وهكذا لو آمن بالله في كل شيء،
وصدق الله في كل شيء، إلا في الزنا، فقال: الزنا مباح أو اللواط مباح، أو
الخمر مباحة، صار بهذا كافرا، ولو فعل كل شيء آخر من دين الله، فاستحلاله
لما حرم الله مما هو معلوم من الدين بالضرورة، صار باستحلاله هذا كافرا
بالله، مرتدا عن الإسلام، ولم تنفعه أعماله ولا توحيده لله عند جميع
المسلمين. وهكذا لو قال: إن نوحا أو هودا، أو صالحا، أو إبراهيم أو إسماعيل
أو غيرهم ليس بنبي، صار كافرا بالله، وأعماله كلها باطلة، لكونه بذلك قد
كذب الله سبحانه فيما أخبر به عنهم. وهكذا لو حرم ما أحله الله، مع التوحيد
والإخلاص والإيمان بالرسل، فقال مثلا: أنا ما أحل الإبل أو البقر أو الغنم
أو غيرها مما أحله الله حلا مجمعا عليه، وقال: إنها حرام يكون بهذا كافرا
مرتدا عن الإسلام بعد إقامة الحجة عليه، إذا كان مثله قد يجهل ذلك. وصادف
جنس من أحل ما حرم الله. أو قال: ما أحل الحنطة أو الشعير بل هما حرام، وما
أشبه ذلك، صار كافرا، أو قال: إنه يستبيح البنت أو الأخت، صار بهذا كافرا
بالله، مرتدا عن الإسلام، ولو صلى وصام وفعل باقي الطاعات، لأن واحدة من
هذه الخصال تبطل دينه، كما قال تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ
عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[44].
ونحن في زمان غلب فيه الجهل،
وقل فيه العلم، وأقبل الناس إلا من شاء الله، على علوم أخرى وعلى مسائل
أخرى، تتعلق بالدنيا، فقل علمهم بالله، وبدينه؛ لأنهم شغلوا بما يصدهم عن
ذلك، وصارت أغلب الدروس في أشياء تتعلق بالدنيا، أما التفقه في دين الله،
والتدبر لشريعته سبحانه، وتوحيده، فقد أعرض عنه الأكثرون، وأصبح من يشتغل
به اليوم هو أقل القليل. فينبغي لك يا عبد الله الانتباه لهذا الأمر،
والإقبال على كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، دراسة وتدبرا
وتعقلا، حتى تعرف توحيد الله والإيمان به، وحتى تعرف ما هو الشرك بالله عز
وجل، وحتى تكون بصيرا بدينك، وحتى تعرف ما هو سبب دخول الجنة والنجاة من
النار، مع العناية بحضور حلقات العلم والمذاكرة مع أهل العلم والدين، حتى
تستفيد وتفيد، وحتى تكون على بينة وعلى بصيرة في أمرك.
والشرك شركان: أكبر وأصغر:
فالشرك
الأكبر ينافي توحيد الله، وينافي الإسلام، ويحبط الأعمال، والمشركون في
النار، وكل عمل أو قول دلت الأدلة على أنه كفر بالله: كالاستغاثة بالأموات
أو الأصنام، أو اعتقاد حل ما حرم الله، أو تحريم ما أحله الله، أو تكذيب
بعض رسله، فهذه الأشياء تحبط الأعمال، وتوجب الردة عن الإسلام، كما سبق
بيان ذلك.
قال تعالى في أول سورة النساء: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ
أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا}[45]، فهنا قد بين
الله أن الشرك لا يغفر، ثم علق ما دونه على المشيئة فأمره إلى الله سبحانه
وتعالى، إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، على قدر المعاصي التي مات عليها، غير
تائب، ثم بعد أن يطهر بالنار يخرجه الله منها إلى الجنة، بإجماع أهل السنة
والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة، ومن سار على نهجهم.
أما في آية
الزمر، فعمم وأطلق فقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا
عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ
يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}[46] قال
العلماء: هذه الآية في التائبين، أما آية النساء فهي في غير التائبين، ممن
مات على الشرك مصراً على بعض المعاصي، وهي قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ
يَشَاءُ}[47].
أما من مات على ما دون الشرك كالزنا والمعاصي الأخرى، وهو
يؤمن أنها محرمة، ولم يستحلها ولكنه انتقل إلى الآخرة ولم يتب منها، فهذا
تحت مشيئة الله عند أهل السنة والجماعة إن شاء الله غفر له، وأدخله الجنة
لتوحيده وإسلامه، وإن شاء سبحانه عذبه على قدر المعاصي التي مات عليها
بالنار من الزنا وشرب الخمر، أو عقوقه لوالديه، أو قطيعة أرحامه، أو غير
ذلك من الكبائر كما سبق إيضاح ذلك.
وذهب الخوارج إلى أن صاحب المعصية
مخلد في النار وهو بالمعاصي كافر أيضا، ووافقهم المعتزلة بتخليده في النار،
ولكن أهل السنة والجماعة خالفوهم في ذلك ورأوا أن الزاني والسارق والعاق
لوالديه وغيرهم من أهل الكبائر لا يكفرون بذلك، ولا يخلدون في النار، إذا
لم يستحلوا هذه المعاصي، بل هم تحت مشيئة الله كما تقدم، فهذه أمور عظيمة
ينبغي أن نعرفها جيدا، وأن نفهمها كثيرا؛ لأنها من أصول العقيدة، وأن يعرف
المسلم حقيقة دينه، وضده من الشرك بالله تعالى، ويعلم أن باب التوبة من
الشرك والمعاصي مفتوح إلى أن تطلع الشمس من مغربها.
ولكن المصيبة
العظيمة، هي الغفلة عن دين الله، وعدم التفقه فيه، فربما وقع العبد في
الشرك والكفر بالله وهو لا يبالي، لغلبة الجهل، وقلة العلم بما جاء به
الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق. فانتبه لنفسك أيها العاقل،
وعظم حرمات ربك، وأخلص لله العمل، وسارع إلى الخيرات، واعرف دينك بأدلته،
وتفقه في القرآن والسنة بالإقبال على كتاب الله، وبحضور حلقات العلم وصحبة
الأخيار، حتى تعرف دينك على بصيرة، وأكثر من سؤال ربك الثبات على الهدى
والحق، ثم إذا وقعت في معصية فبادر بالتوبة فكل بني آدم خطاء، وخير
الخطائين التوابون، كما جاء في الحديث الصحيح، لأن المعصية نقص في الدين،
وضعف في الإيمان.
فالبدار البدار إلى التوبة، والإقلاع والندم، والله
يتوب على من تاب، وهو القائل سبحانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا
أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[48]، وقال عز وجل: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا}[49]،
فالتوبة لا بد منها، وهي لازمة للعبد دائماً، والرسول صلى الله عليه وسلم
يقول: ((التوبة تهدم ما كان قبلها)) فاستقم عليها، فكلما وقعت منك زلة
فبادر بالتوبة والإصلاح، وكن متفقها في دينك، لا تشغل بحظك في الدنيا عن
حظك من الآخرة، بل اجعل للدنيا وقتا، وللتعلم وللتفقه في الدين، والتبصر
والمطالعة والمذاكرة والعناية بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،
وحضور حلقات العلم ومصاحبة الأخيار غالب وقتك، فهذه الأمور هي أهم شأنك،
وسبب سعادتك.
وهناك نوع آخر وهو الشرك الأصغر مثل الرياء، والسمعة في
بعض العمل أو القول، ومثل أن يقول الإنسان ما شاء الله وشاء فلان، والحلف
بغير الله، كالحلف بالأمانة والكعبة والنبي وأشباه ذلك، فهذه وأشباهها من
الشرك الأصغر، فلا بد من الحذر من ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما
قال له رجل: ما شاء الله وشئت: ((أجعلتني لله ندا؟ ما شاء الله وحده))،
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن
قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفا
فليحلف بالله أو ليصمت))، وقال: ((لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا
بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون))، وقال صلى الله عليه وسلم:
((من حلف بغير الله فقد أشرك)) إلى غير هذا من الأحاديث الصحيحة الواردة في
هذا المعنى، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك
الأصغر)) فسئل عنه فقال: ((الرياء))، وقد يكون الرياء كفرا أكبر إذا دخل
صاحبه في الدين رياء ونفاقاً، وأظهر الإسلام لا عن إيمان ولا عن محبة، فإنه
يصير بهذا منافقاً كافراً كفراً أكبر.
وكذلك إذا حلف بغير الله، وعظم
المحلوف به مثل تعظيم الله، أو اعتقد أنه يعلم الغيب، أو يصلح أن يعبد مع
الله سبحانه، صار بذلك مشركاً شركاً أكبر ، أما إذا جرى على اللسان، الحلف
بغير الله كالكعبة، والنبي وغيرهما، بدون هذا الاعتقاد، فإنه يكون مشركاً
شركاً أصغر فقط.
وأسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم الفقه في دينه،
والثبات عليه، وأن يرزقنا وإياكم الاستقامة عليه، وأن يعيذنا وإياكم من
شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، ومن مضلات الفتن إنه تعالى جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.