ما كادت السلطة الوطنية الفلسطينية
تحصد أول نجاحات نضالاتها وتوجهها السياسي الجديد خارج لعبة المفاوضات
القذرة، بحصول طلب دولة فلسطين على الأغلبية الكاسحة لأصوات الدول الأعضاء
في المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم (يونيسكو) لنيل العضوية
الكاملة في هذه المنظمة العالمية، حتى جُنّ جنون “إسرائيل” وقامت من حينها
بشن واحدة من أشرس هجماتها الفاشية ضد الشعب الفلسطيني، شملت حتى الآن
تجميد العوائد الضريبية الفلسطينية، وإغراق القدس الشرقية والضفة الغربية
بدفعات جديدة من الكتل الاستيطانية، وشن هجمات قرصنة منسقة على أجهزة
الكمبيوتر في الضفة الغربية لتعطيلها وشل حركتها وحركة الناس واقتصادهم
وحياتهم الاجتماعية .
لقد حدث ذلك دفعة واحدة وبصورة
متوازية، في أعقاب القرارات التي اتخذتها عصابة الثمانية المسماة الحكومة
“الإسرائيلية” المصغرة برئاسة نتنياهو الذي لم يخف نواياه العدوانية حتى
من قبل إجراء التصويت في (اليونيسكو) . ومن الواضح أن الأوامر قد صدرت إلى
مختلف الأجهزة العسكرية والأمنية “الإسرائيلية” التي تشكل عصب الدولة
الصهيونية، وإلى المافيات الصهيونية عبر العالم، المسماة لوبيات، “للتحرك
الفوري” لتوجيه ضربات مؤلمة هي عبارة عن رسائل تحذيرية للسلطة الفلسطينية،
ومن خلالها إلى كافة أبناء الشعب الفلسطيني . وكان لابد للحكومة
“الإسرائيلية” المصغرة التي أعطت الضوء الأخضر للتحرك، من أن تكون هي
البادئة بالتحرك، حيث صوت أعضاؤها على قرار بالإسراع في إقرار مناقصة بناء
ألفي وحدة استيطانية في القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلتين، منها
1650 وحدة استيطانية في القدس الشرقية - العاصمة المفترضة للدولة
الفلسطينية - والباقي في عمق الضفة وثقلها السكاني العربي . وفي ذات الوقت
قررت “عصابة الثمانية” تجميد تحويل حصة السلطة الوطنية الفلسطينية من
العوائد الضريبية والرسوم الجمركية التي تجبيها “إسرائيل” نيابة عن السلطة
الفلسطينية، (والله يا محلاها اتفاقات أوسلو!) .
قرار الحكومة “الإسرائيلية” المصغرة
بتجميد صرف مستحقات السلطة الفلسطينية من حصتها في العوائد الضريبية
والرسوم الجمركية، غير إنساني، لأنه يعني حرمان عشرات الألوف من الأسر
الفلسطينية من مرتبات معيليها، وإحالة حياتهم إلى جحيم ضنك العيش . هذا
العمل المشين لا يليق إلا بالعصابات وليس بالحكومات الرشيدة .
وبالتزامن، تصدر الأوامر من مركز تحكم
صهيوني فيقوم الطابور الخامس من قراصنة الكمبيوتر في 20 بلداً حول العالم،
بشنّ هجمات إلكترونية منسقة ضد مقاسم أجهزة الكمبيوتر في الضفة الغربية،
ما تسبب في أعطال وأضرار غير معلومة القيمة .
“إسرائيل” جن جنونها هي وحاميتها
وراعيتها الولايات المتحدة، لأن السلطة الوطنية الفلسطينية، في أول عمل
نضالي لها خارج العباءة والوصاية الأمريكية منذ أوسلو، حققت اختراقاً
نوعياً باهراً بحصولها على العضوية الكاملة في أولى المنظمات التابعة
للأمم المتحدة (اليونيسكو) . فرغم التهديدات وحملة التخريب والتشويش التي
شنتها واشنطن وتل أبيب للحيلولة دون تمكين الفلسطينيين من (اليونيسكو)،
فإن فلسطين حازت في التصويت أصوات 107 دول أعضاء من بينها الصين والهند
وروسيا والبرازيل وفرنسا، فيما اعترضت 14 دولة وامتنعت 52 دولة عن التصويت
. إنه انتصار باهر لاشك في ذلك .
تصويت دول كبرى مع القرار أبطل مفعول
تهديدات “إسرائيل” بمعاقبة الدول التي ستصوت على الطلب الفلسطيني، وكل ما
ستفعله هو معاقبة السلطة الوطنية الفلسطينية و(اليونيسكو)، حيث أكدت
الحكومة “الإسرائيلية” أنها ستوقف مساهمتها المالية في (اليونيسكو) وستمنع
بعثاتها من زيارة “إسرائيل” .
الآن، هل كل هذه الأعمال الثأرية الإجرامية “الإسرائيلية” مأخوذة في حسبان السلطة الوطنية الفلسطينية؟
بكل تأكيد، فهذا على الأقل ما أفادت
به المواقف المتكررة للقيادة الفلسطينية التي كانت تدرك منذ البدء عواقب
خيار النضال الوطني التحرري، على الأقل من “حزمة” التهديدات والإجراءات
الأمريكية و”الإسرائيلية” التي ماانفكت تنهال على السلطة لثنيها عن هذا
الخيار وإرغامها على العودة إلى مهزلة دوامة التفاوض القاتلة .
إنما السؤال الأهم الذي يطرحه السؤال
الأول هو: هل الحكومات العربية ستتفرج على استفراد أمريكا و”إسرائيل”
بالسلطة وتصعيد إجراءات الانتقام منها، أم ستهب لنجدتها وتقديم يد العون
والمساعدة لها لتمكينها من مواصلة مشوارها في الأمم المتحدة لانتزاع حقها
في العضوية الكاملة في المنظمة الدولية؟
نعلم أن جميع الدول العربية شجعت ودعمت
السلطة الوطنية الفلسطينية للسير قدماً في طلب العضوية الكاملة في الأمم
المتحدة، ويبقى أن تحول هذا الموقف إلى فعل، فهذه فرصة لا تتكرر دائماً
لإعادة القضية الفلسطينية إلى موقعها الطبيعي في سلم اهتمامات الأسرة
الدولية .