معنى الأحرف التي أرادها النبي صلى الله عليه و سلم
فأما معنى الأحرف
التي أرادها النبي صلى الله عليه و سلم ههنا فإنه يتوجه إلى وجهين : أحدهما
: أن يكون يعني بذكر أن القرآن أنزل على سبعة ( أحرف سبعة ) أوجه من
اللغات لأن الأحرف جمع حرف في الجمع القليل مثل فلس وأفلس ورأس وأروس
والحرف قد يراد به الوجه بدليل قوله تعالى : { ومن الناس من يعبد الله على
حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه } فالمراد
بالحرف ههنا الوجه الذي تقع عليه العبادة
يقول جل ثناؤه : ( ومن الناس
من يعبد الله على النعمة تصيبه والخير يناله ) : من تثمير المال وعافية
البدن وإعطاء السؤال ويطمئن إلى ذلك مادامت له هذه الأمور واستقامت له هذه
الأحوال فإن تغيرت حاله وامتحنه الله تعالى بالشدة في عيشه والضر في بدنه
والفقر في ماله ترك عبادة ربه وكفر به فهذا عبد الله سبحانه وتعالى على وجه
واحد ومذهب واحد وذلك معنى الحرف
ولو عبده تبارك وتعالى على الشكر
للنعمة والصبر عند المصيبة والرضى بالقضاء عند السراء والضراء والشدة
والرخاء والفقر والغنى والعافية والبلاء - إذ كان سبحانه أهلا أن يتعبد على
كل حال - لم يكن عبده تعالى على حرف
فلهذا سمي النبي صلى الله عليه و
سلم هذه الأوجه المختلفة من القراءات والمتغايرة من اللغات أحرفا على معنى
أن كل شيء منها وجه على حدته غير الوجه الآخر كنحو قوله : { ومن الناس من
يعبد الله على حرف } أي على وجه إن تغير عليه تغير عن عبادته وطاعته على ما
بيناه
والوجه الثاني من معنى الأحرف : أن يكون صلى الله عليه و سلم سمى
القراءات أحرفا على طريق السعة كنحو ما جرت عليه عادة في تسميتهم الشيء
باسم ما هو منه وما قاربه وجاوره وكان كسبب منه وتعلق به ضربا من التعلق
وتسميتهم الجملة باسم البعض منها فلذلك سمي النبي صلى الله عليه و سلم
القراءة حرفا وأن كان كلاما كثيرا من أجل أن منها حرفا قد غير نظمه أو كسر
أو قلبإلى غيره أو أميل أو زيد أو نقص منه على ما جاء في المختلف فيه من
القراءة فلما كان ذلك نسب صلى الله عليه و سلم القراءة والكلمة التامة إلى
ذلك الحرف المغير المحتلف اللفظ من القراءة فسمي القراءة - إذ كان ذلك
الحرف منها - حرفا على عادة العرب في ذلك واعتمادا على استعمالها نحوه ألا
ترى أنهم قد يسمون القصيدة قافية إذ كانت القافية منها كما قال : ( وقافية
مثل حد السنان ... تبقى ويهلك من قالها ) يعني وقصيدة فسماها قافية على
طريق الاتساع
وكذا يسمون الرسالة على نظامها والخطبة لكمالها والقصيدة
كلها والقصة بأسرها كلمة إذ كانت الكلمة منها فيقولون قال قس في كلمته كذا
يعنون خطبته وقال زهير في كلمته كذا يريدون قصيدته وقال فلان في كلمته كذا
أي في رسالته
قال الله تبارك وتعالى : { وتمت كلمة ربك الحسنى على بني
إسرائيل بما صبروا } فقال / إنما يعني بالكلمة ههنا قوله في سورة القصص : {
ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين *
ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون }
فسمي ما في الآيتين - ( من ) منة على بني إسرائيل وجعلهم أئمة ووارث الأرض
وتمكينه إياهم إلى غير ذلك مما تضمنتا - كلمة
وقال مجاهد في قوله تعالى :
{ وألزمهم كلمة التقوى } قال : لاإله إلا الله فسمي هذه الجملة كلمة إذ
كانت الكلمة منها فكذا سمى رسول الله صلى الله عليه و سلم القراءات أحرفا
إذ كانت الأحرف المختلف فيها منها فخاطب صلى الله عليه و سلم من بالحضرة
وسائر العرب في هذا الخبر من تسمية القراءة حرفا لما يستعملون في لغتهم وما
جرت عليه عادتهم في منطقتهم كما بيناه فدل على صحة ما قلناه