ربما يشبهها الكثيرون.. وقد لا يشبهها أحد ممن تبقى بيننا، وذلك بحجم وعمق الجرح الخاص بها، والوجع الذي رافقها ستة عقود وأكثر، حيث بقيت هي الشاهد الحي على هول الجريمة واحتراق عائلتها في تشرين عام 1948 بالكامل أمام ناظريها، وهي الصورة الحية للذاكرة والرواية الحقيقية لنكبة فلسطين، عاشت وعايشت فاجعة جرحها الخاص وهول الجريمة التي طالت عائلتها كاملة كما هو جرح شعب بأكمله، هي الصورة الحية والحكاية التي لن تنتهي فصولها مع تغييبها، وهي التي بقيت الشاهدة الحية على النزف وحجم الجريمة التاريخية بحق شعب بأكمله وصورة النكبة التي لم تنته فصولها بعد..
أهالي ترشيحا شيعوا جثمانها الطاهر ظهر الثلاثاء إلى مثواه الأخير لكن بدفنها لن تدفن الرواية، ولا حقيقة النكبة وفصولها المأساوية بل ستبقى حكايتها وجرحها وجرح عائلتها النازف جيلا بعد جيل إلى حين استرداد الحق وتحقيق العدالة، فهي فاطمة هواري (83 عامًا) من ترشيحا في الجليل الاعلى والملقبة بعروس فلسطين ورمز النكبة والتهجير، والتي أمضت غالبية حياتها مقعدة نتيجة إصابتها خلال قصف جوي إسرائيلي لمنزلها في 28 تشرين أول من عام النكبة 1948.
كان منزل العائلة قد تعرض لقصف شديد من قبل 3 طائرات إسرائيلية، أسفر عن استشهاد زوجة شقيقها وابنها وزوجة عمها، وجدتها، وأولاد عمها الأربعة، وزوجة خالها وابنتها، أما هي فقد تم إنقاذها من تحت الردم بعد أن شاهدت أعزاءها الـ 14يحترقون ويصرخون أمام ناظريها، ونقلت إلى لبنان حيث عولجت هناك وعادت بعد أربعة شهور واستردت عافيتها لكنها بقيت مشلولة حتى وفاتها صباح يوم الثلاثاء هذا الأسبوع.
الزيارة المفاجئة لـ"إيبي ناتان "
روت فاطمة هواري قبل وفاتها بسنوات: "في العام 1995 وصل إلى البلدة أحد الطيارين الذي قصف ترشيحا واسُمه "ايبي نتان" بعد ما علم عن قصتي، حيث قرّر أن يزورني بعد ما أصبح "داعية سلام"، طلب زيارتي في بيتي وعندما وصل الينا ووقف أمامي سألته أترى جيدًا كيف اعيش؟، أنت الذي قتلت أحد عشر شخصًا من عائلتي، وأنا مشلولة منذ اليوم الذي قصفت فيه ترشيحا، ما خفت من الله؟"
"ايبي نتان تسمّر في مكانه دون حركة وما حسّيت إلا عينيه رَغْرَغَت بالدمع، وانا العن الحكومة وبريطانيا وأميركا لأنهم تسببوا لي كل هذه الجريمة وقتلوا عائلتي وعائلات أخرى"، لم يكن أمامه سوى أن ينصرف من أمام ضحيته، لكن ليس قبل أن يعرض على فاطمة كلّ إمكانات المساعدة التي رفضتها بشدة.
لكن نتان لم يسلم بالامر حيث كرر المحاولة للتخلص من هذا العبء الاخلاقي الذي على ما يبدو لاحقه في خريف عمره ليبرر نفسه كداعية سلام، ليعود بعد ثلاث سنوات الى فاطمة الهواري مع شبكة تلفزيون ال CNN وكما سبق وروت الهواري:
"تحدثوا الي من كانوا برفقته وقالوا إن ايبي نتان يريد مصالحتك، حيث وقف أمامي وسألته مرة اخرى على ماذا التصالح؟ واذا اردت ذلك هل بامكانك ان تجعلني أن أقف على قدمي، لكن أنا ما دمت على هذا الحال لا يمكن ان اصالح - واتمنى من الله مثل ما شلّني انشالله ينشَل- قال نتان: لو بطلع بايدي كنت خليتك تمشي، قلت: هذا نصيبي وهذا هو حالي".
"ايبي نتان" يوافق على توقيع خطي بأنّه هو من قصف ترشيحا..
لكن حكاية فاطمة لم تنته عند هذا الحد بل تتواصل وتصل إلى منزل "ايبي نتان" باحثة عن اعترافه بالجريمة وتقول: "علمت بعد مدة من الزمن أن ايبي نتان أصيب بالشلل وأنه يريد مقابلتي، وفعلا ذهبت إليه برفقة المخرج باسل طنوس ومصورين تلفزيونيين، وعندما وصلنا اليه لم يكن قادرا على الحركة والكلام وقلت له اعلم أنك ما تستطيع أن تتكلم بسبب مرضك، لكني اريد منك اعتراف خطي تعترف فيه أنّك قصفت ترشيحا في العام 1948، فإذا كنت موافقًا على طلبي فاعطني إشارة الموافقة برموش عينيك، نتان رد باشارة الموافقة، لكن من كان حوله رفضوا ذلك".
فاطمة الهواري حاولت على مدار الفترة السابقة الحصول على تعويض الحكومة كمصابة حرب، إلا ان الحكومة تنصلت من مسؤوليتها بادعاء أن العرب هم من تسببوا لها بالإعاقة، وهكذا مات "ايبي ناتان" وهو يحمل معه جريمته النكراء التي اعترف بها إلى عالمه الآخر. وها هي فاطمة الرمز ترحل لتبقى معانيها وحكايتها ملهمة للإصرار على رواية الحق.
فاطمة: عروس النكبة
فاطمة الهواري جميلة الصِبا، عندما تركتها السنون مقعدة على كرسيها المتحرك منذ العام 48، وتركت هي مشروع الخطوبة الذي كادَ أن يُكلّل بالزواج لولا أن جاءت الحقيقة لتشلها عندما عرفت أنها لن تقف يومًا على رجليها.
تسترجع تفاصيل حكايتها: "كنتُ صبية عندما بدأت الطائرات بقصف المكان، يومها حاولنا الهروب جميعًا إلى الوعر القريب، قاصدين الاختباء في ظل أشجار الزيتون، لكنني قررتُ العودة على ظهر الفرس إلى البيت، لأحضر بعض المؤن، فعاجلني القصف وأصبتُ إصابة بالغة في عامودي الفقري، نُقلت إلى صور في لبنان، فأجريت لي عملية جراحية، وبقيت في المستشفى شهرين ونصف الشهر ثم عدت إلى بيت أهلي. مضى حوالي 25 يومًا وإذا بالقصف يعود مرة أخرى، فأصبت مرة أخرى، وتوفيت أختي فوزية التي كانت تئن أمام نظري، بينما صرخت زوجة عمي، لآخر مرة "النار ولعت بظهري" ثم فارقت الحياة. وفي هذه المصيبة رحل احد عشر شخصًا من العائلة، وخرجت أنا من تحت الأنقاض فاقدة القدرة على الوقوف، بينما نجت أختي فتحية من الموت بأعجوبة".
توقفت فاطمة عن سرد حكايتها...إلا أنّ المخرج باسل طنوس، مخرج فيلم "عروس الجليل" استكمل الحكاية عندما وثّق لقاء الجاني ايبي نتان الطيار العسكري الذي قصف ترشيحا عام 1948 وجعل المجني عليها فاطمة تفقد حلمها الأبدي بالسير على قدميها، يقول طنوس: "قصة فاطمة فرضت نفسها عليّ، فقد شعرتُ أنّ هذه الشاهدة الحيّة تتحدث بأعمق مأساة عاشها شعبنا الفلسطيني في ال 48 وما زالَ يحياها حتى اليوم".
"لقد شدتني فاطمة، إذ لم يلتفت أحد إلى حجم معاناتها قبل أن يولد عملي "عروس الجليل"، رأيتُ فيها ترشيحا – البلدة التي لا زالت تأنُ ظلمًا حتى اليوم. ترشيحا التي كانت عروس البلاد، أصبحت قرية مُهملة، جاورها المستوطنون من كُلِ مكان، واقتطعوا أرضها ونهبوا خيراتها وجمالها".
الشبه بين ترشيحا وفاطمة كبيرٌ إلى أبعد الحدود، فهي العروس التي لم تفرح بزواجها، حينَ أقعدها المحتل، وحكم عليها بأن تعيش عمرها، تبكي صِباها الجميل، كما تبكي ترشيحا على ماضيها وحاضرها وناسها الذين يحلمون بالعودة".
"حتى في الألم الشخصي لفاطمة ومعاناة عائلتها هنالك بعدٌ وإسقاطاتٌ كبيرة وواضحة بين الجاني والضحية، فعجز فاطمة هو قمة المأساة التي يعيشها الفلسطيني، أما التحدي في الحكاية وفي الواقع أنّ الفلسطيني لا يركع ولا يتنازل عن حلمه المستمر بالوقوف على رجليه واستعادة حقه المغتصب".
رحلت فاطمة وبقي فيلم "عروس الجليل" شهادة على وجودها وحكايتها كأحد رموز قضيتنا.
رمز نكبة فلسطين فاطمة هواري 83 عاما.. رحلت ولم تسامح..
ربما يشبهها الكثيرون.. وقد لا يشبهها أحد ممن تبقى بيننا، وذلك بحجم وعمق الجرح الخاص بها، والوجع الذي رافقها ستة عقود وأكثر، حيث بقيت هي الشاهد الحي على هول الجريمة واحتراق عائلتها في تشرين عام 1948 بالكامل أمام ناظريها، وهي الصورة الحية للذاكرة والرواية الحقيقية لنكبة فلسطين، عاشت وعايشت فاجعة جرحها الخاص وهول الجريمة التي طالت عائلتها كاملة كما هو جرح شعب بأكمله، هي الصورة الحية والحكاية التي لن تنتهي فصولها مع تغييبها، وهي التي بقيت الشاهدة الحية على النزف وحجم الجريمة التاريخية بحق شعب بأكمله وصورة النكبة التي لم تنته فصولها بعد..
أهالي ترشيحا شيعوا جثمانها الطاهر ظهر الثلاثاء إلى مثواه الأخير لكن بدفنها لن تدفن الرواية، ولا حقيقة النكبة وفصولها المأساوية بل ستبقى حكايتها وجرحها وجرح عائلتها النازف جيلا بعد جيل إلى حين استرداد الحق وتحقيق العدالة، فهي فاطمة هواري (83 عامًا) من ترشيحا في الجليل الاعلى والملقبة بعروس فلسطين ورمز النكبة والتهجير، والتي أمضت غالبية حياتها مقعدة نتيجة إصابتها خلال قصف جوي إسرائيلي لمنزلها في 28 تشرين أول من عام النكبة 1948.
كان منزل العائلة قد تعرض لقصف شديد من قبل 3 طائرات إسرائيلية، أسفر عن استشهاد زوجة شقيقها وابنها وزوجة عمها، وجدتها، وأولاد عمها الأربعة، وزوجة خالها وابنتها، أما هي فقد تم إنقاذها من تحت الردم بعد أن شاهدت أعزاءها الـ 14يحترقون ويصرخون أمام ناظريها، ونقلت إلى لبنان حيث عولجت هناك وعادت بعد أربعة شهور واستردت عافيتها لكنها بقيت مشلولة حتى وفاتها صباح يوم الثلاثاء هذا الأسبوع.
الزيارة المفاجئة لـ"إيبي ناتان "
روت فاطمة هواري قبل وفاتها بسنوات: "في العام 1995 وصل إلى البلدة أحد الطيارين الذي قصف ترشيحا واسُمه "ايبي نتان" بعد ما علم عن قصتي، حيث قرّر أن يزورني بعد ما أصبح "داعية سلام"، طلب زيارتي في بيتي وعندما وصل الينا ووقف أمامي سألته أترى جيدًا كيف اعيش؟، أنت الذي قتلت أحد عشر شخصًا من عائلتي، وأنا مشلولة منذ اليوم الذي قصفت فيه ترشيحا، ما خفت من الله؟"
"ايبي نتان تسمّر في مكانه دون حركة وما حسّيت إلا عينيه رَغْرَغَت بالدمع، وانا العن الحكومة وبريطانيا وأميركا لأنهم تسببوا لي كل هذه الجريمة وقتلوا عائلتي وعائلات أخرى"، لم يكن أمامه سوى أن ينصرف من أمام ضحيته، لكن ليس قبل أن يعرض على فاطمة كلّ إمكانات المساعدة التي رفضتها بشدة.
لكن نتان لم يسلم بالامر حيث كرر المحاولة للتخلص من هذا العبء الاخلاقي الذي على ما يبدو لاحقه في خريف عمره ليبرر نفسه كداعية سلام، ليعود بعد ثلاث سنوات الى فاطمة الهواري مع شبكة تلفزيون ال CNN وكما سبق وروت الهواري:
"تحدثوا الي من كانوا برفقته وقالوا إن ايبي نتان يريد مصالحتك، حيث وقف أمامي وسألته مرة اخرى على ماذا التصالح؟ واذا اردت ذلك هل بامكانك ان تجعلني أن أقف على قدمي، لكن أنا ما دمت على هذا الحال لا يمكن ان اصالح - واتمنى من الله مثل ما شلّني انشالله ينشَل- قال نتان: لو بطلع بايدي كنت خليتك تمشي، قلت: هذا نصيبي وهذا هو حالي".
"ايبي نتان" يوافق على توقيع خطي بأنّه هو من قصف ترشيحا..
لكن حكاية فاطمة لم تنته عند هذا الحد بل تتواصل وتصل إلى منزل "ايبي نتان" باحثة عن اعترافه بالجريمة وتقول: "علمت بعد مدة من الزمن أن ايبي نتان أصيب بالشلل وأنه يريد مقابلتي، وفعلا ذهبت إليه برفقة المخرج باسل طنوس ومصورين تلفزيونيين، وعندما وصلنا اليه لم يكن قادرا على الحركة والكلام وقلت له اعلم أنك ما تستطيع أن تتكلم بسبب مرضك، لكني اريد منك اعتراف خطي تعترف فيه أنّك قصفت ترشيحا في العام 1948، فإذا كنت موافقًا على طلبي فاعطني إشارة الموافقة برموش عينيك، نتان رد باشارة الموافقة، لكن من كان حوله رفضوا ذلك".
فاطمة الهواري حاولت على مدار الفترة السابقة الحصول على تعويض الحكومة كمصابة حرب، إلا ان الحكومة تنصلت من مسؤوليتها بادعاء أن العرب هم من تسببوا لها بالإعاقة، وهكذا مات "ايبي ناتان" وهو يحمل معه جريمته النكراء التي اعترف بها إلى عالمه الآخر. وها هي فاطمة الرمز ترحل لتبقى معانيها وحكايتها ملهمة للإصرار على رواية الحق.
فاطمة: عروس النكبة
فاطمة الهواري جميلة الصِبا، عندما تركتها السنون مقعدة على كرسيها المتحرك منذ العام 48، وتركت هي مشروع الخطوبة الذي كادَ أن يُكلّل بالزواج لولا أن جاءت الحقيقة لتشلها عندما عرفت أنها لن تقف يومًا على رجليها.
تسترجع تفاصيل حكايتها: "كنتُ صبية عندما بدأت الطائرات بقصف المكان، يومها حاولنا الهروب جميعًا إلى الوعر القريب، قاصدين الاختباء في ظل أشجار الزيتون، لكنني قررتُ العودة على ظهر الفرس إلى البيت، لأحضر بعض المؤن، فعاجلني القصف وأصبتُ إصابة بالغة في عامودي الفقري، نُقلت إلى صور في لبنان، فأجريت لي عملية جراحية، وبقيت في المستشفى شهرين ونصف الشهر ثم عدت إلى بيت أهلي. مضى حوالي 25 يومًا وإذا بالقصف يعود مرة أخرى، فأصبت مرة أخرى، وتوفيت أختي فوزية التي كانت تئن أمام نظري، بينما صرخت زوجة عمي، لآخر مرة "النار ولعت بظهري" ثم فارقت الحياة. وفي هذه المصيبة رحل احد عشر شخصًا من العائلة، وخرجت أنا من تحت الأنقاض فاقدة القدرة على الوقوف، بينما نجت أختي فتحية من الموت بأعجوبة".
توقفت فاطمة عن سرد حكايتها...إلا أنّ المخرج باسل طنوس، مخرج فيلم "عروس الجليل" استكمل الحكاية عندما وثّق لقاء الجاني ايبي نتان الطيار العسكري الذي قصف ترشيحا عام 1948 وجعل المجني عليها فاطمة تفقد حلمها الأبدي بالسير على قدميها، يقول طنوس: "قصة فاطمة فرضت نفسها عليّ، فقد شعرتُ أنّ هذه الشاهدة الحيّة تتحدث بأعمق مأساة عاشها شعبنا الفلسطيني في ال 48 وما زالَ يحياها حتى اليوم".
"لقد شدتني فاطمة، إذ لم يلتفت أحد إلى حجم معاناتها قبل أن يولد عملي "عروس الجليل"، رأيتُ فيها ترشيحا – البلدة التي لا زالت تأنُ ظلمًا حتى اليوم. ترشيحا التي كانت عروس البلاد، أصبحت قرية مُهملة، جاورها المستوطنون من كُلِ مكان، واقتطعوا أرضها ونهبوا خيراتها وجمالها".
الشبه بين ترشيحا وفاطمة كبيرٌ إلى أبعد الحدود، فهي العروس التي لم تفرح بزواجها، حينَ أقعدها المحتل، وحكم عليها بأن تعيش عمرها، تبكي صِباها الجميل، كما تبكي ترشيحا على ماضيها وحاضرها وناسها الذين يحلمون بالعودة".
"حتى في الألم الشخصي لفاطمة ومعاناة عائلتها هنالك بعدٌ وإسقاطاتٌ كبيرة وواضحة بين الجاني والضحية، فعجز فاطمة هو قمة المأساة التي يعيشها الفلسطيني، أما التحدي في الحكاية وفي الواقع أنّ الفلسطيني لا يركع ولا يتنازل عن حلمه المستمر بالوقوف على رجليه واستعادة حقه المغتصب".
رحلت فاطمة وبقي فيلم "عروس الجليل" شهادة على وجودها وحكايتها كأحد رموز قضيتنا.
عــ48ـرب/
توفيق عبد الفتاح