أسباب, السير
أسباب شرح الصدر
أسباب شرح الصدر
للشيخ/ عبد الهادي بن حسن وهبي
أمين وقف البخاري الخيري في عكار - شمال لبنان
اعلم رحمك الله بأنَّ شرح الصدر من أعظم أسباب الهدى، وتضييقه من أسباب الضلال،كما أنَّ شرحه من أجلِّ النِّعم ، وتضييقه منأعظم النِّقم ، فالمؤمن مشروح الصدر منفسحهفي هذه الدار على ما ناله من مكروهها ، وإذاقوي الإيمان وخالطت بشاشته القلوب كان علىمكارهها أشرح صدراً منه على شهواتها ومحابها، فإذا فارقها كان انفساح روحه والشرح الحاصلله بفراقها أعظم بكثير ، كحال من خرج من سجنضيق إلى فضاء واسع موافق له ، فإنها سجنالمؤمن ، فإذا بعثه الله يوم القيامة ، رأى منانشراح صدره وسعته ما لا نسبة لما قبله إليه ،فشرح الصدر كما أنَّه سبب الهداية فهو أصلكلِّ نعمة ، وأساس كلِّ خير .
وقد سأل كليم الرحمن موسى بن عمرانربَّه أن يشرح له صدره ، لماَّ علم أنَّه لايتمكن من تبليغ رسالته ، والقيام بأعبائهاإلا إذا شرح له صدره ، وقد عدد سبحانه من نعمهعلى خاتم أنبيائه ورسله شَرْح صدره له ، وأخبرعن أتباعه أنه شرح صدورهم للإسلام .
فإن قلت : فما الأسباب التي تشرحالصدر ، والتي تضيقه ؟
فأعظم أسباب شرح الصدر : التوحيدُوعلى حسب كماله ، وقوته ، وزيادته يكونُانشراحُ صدرصاحبه . قال الله تعالى أسباب الصدر أسباب الصدر أسباب الصدر(أَفَمَنْشَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَعَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ))[الزمر : 22 ] . وقال تعالى : ((فَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُيَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْيُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِيالسَّمَاءِ ))[ الأنعام : 125] .
فالهُدى والتوحيدُ مِن أعظمأسبابِ شرح الصدر ، والشِّركُ والضَّلال مِنأعظم أسبابِ ضِيقِ الصَّدرِ وانحراجِه .
ومنها : النورُ الذي يقذِفُه اللهفي قلب العبد، وهو نورُ الإيمان، فإنه يشرَحُالصدر ويُوسِّعه ، ويُفْرِحُ القلبَ . فإذافُقِدَ هذا النور من قلب العبد ، ضاقَ وحَرِجَ، وصار في أضيق سجنٍ وأصعبه .فنصيب العبد منانشراح صدره بحسب نصيبه من هذا النور .
ومنها : العلم ، فإنه يشرح الصدر ،ويوسِّعه حتى يكون أَوسعَ من الدنيا ،والجهلُ يورثه الضِّيق والحَصْر والحبس ،فكلما اتَّسع علمُ العبد ، انشرح صدره واتسع ،وليس هذا لكل عِلم ، بل للعلم الموروث عنالرسول صلى الله عليه وسلم وهو العلمُ النافع، فأهلُه أشرحُ الناس صدراً ، وأوسعهم قلوباًوأحسنُهم أخلاقاً ، وأطيبُهم عيشاً .
ومنها : الإنابة إلى الله سبحانهوتعالى ،ومحبتُه بكلِّ القلب، والإقبالُعليه ، والتنعُّم بعبادته ، فلا شيء أشرحُلصدر العبد من ذلك . حتى إنه ليقولُ أحياناً :إن كنتُ في الجنة في مثل هذه الحالة ، فإنيإذاً في عيش طيب . وللمحبة تأثيرٌ عجيبٌ فيانشراح الصدر ، وطيبِ النفس ، ونعيم القلب ،لا يعرفه إلا من له حِسٌّ به ، وكلَّما كانتالمحبَّة أقوى وأشدَّ ، كان الصدرُ أفسحَوأشرحَ ، ولا يَضيق إلا عند رؤية البطَّالينالفارِغين من هذا الشأن ، فرؤيتُهم قذَى عينه، ومخالطُتهم حُمَّى روحه .
ومِنْ أعظم أَسباب ضيق الصدر :الإعراضُ عن الله تعالى ، وتعلُّقُ القلببغيره ، والغفلةُ عن ذِكره ، ومحبةُ سواه ،فإن من أحبَّ شيئاً غيرَ الله ، عُذِّبَ به ،وسُجِنَ قلبُه في محبة ذلك الغير ، فما فيالأرض أشقى منه ، ولا أكسف بالاً ، ولا أنكدعيشاً ، ولا أتعب قلبا ، فهما محبتان ، محبة هيجنة الدنيا ، وسرور النفس ، ولذةُ القلب ،ونعيم الروح ، وغذاؤها ، ودواؤُها ، بلحياتُها وقُرَّةُ عينها ، وهي محبةُ اللهوحدَه بكُلِّ القلب ، وانجذابُ قوى الميل ،والإرادة ، والمحبة كلِّها إليه . ومحبةٌ هيعذاب الروح ، وغمُّ النفس ، سِجْنُ القلب ،وضِيقُ الصدر ، وهي سببُ الألم والنكدوالعناء وهي محبة ما سواه سبحانه .
ومن أسباب شرح الصدر : دوامُ ذِكرهعلى كُلِّ حال ، وفي كُلِّ موطن ، فللذكرتأثير عجيب في انشراح الصدر ، ونعيم القلب ،وللغفلة تأثيرٌ عجيب في ضِيقه وحبسه وعذابه .
ومنها : الإحسانُ إلى الخلقونفعُهم بما يمكنه من المال ، والجاهِ ،والنفع بالبدن ، وأنواع الإحسان ، فإن الكريمالمحسنَ أشرحُ الناس صدراً ، وأطيبُهم نفساً، وأنعمُهم قلباً والبخيلُ الذي ليس فيهإحسان أضيقُ الناسِ صدراً ، وأنكدُهم عيشاً ،وأعظمُهم همَّاً وغمَّاً . وقد ضرب رسول اللهصلى الله عليه وسلم مثلاً للبخيل والمتصدِّقفقال : (مَثلُالبخيلِ والمنفق كمثل رجلينِ عليهما جنتانِمن حديدٍ من ثدِيِّهما إلى تراقِيهِما ، فأماالمنفقُ ، فلا يُنفقُ إلا سَبغتْ أو وفرت علىجلدهِ حتى تخفيَ بَنانهُ وتعفوَ أثرَه ، وأماالبخيلُ ، فلا يريدُ أنْ ينفقَ شيئاً إلالَزِقت كلُّ حلقة كل مكانه ، فهو يُوسعها ،فلا تتسعُ ). أخرجه البخاري 3/241 ، 242 ومسلم (1021) من حديث أبي هريرة . قال الخطابي : وهذا مثل ضربه النبي صلى الله عليه وسلم للبخيل والمتصدق ، فشبههما برجلين أراد كل واحد منهما لبس درع يستتر به من سلاح عدوه ، فصبها على رأسه ليلبسها ، والدرع أول ما يقع على الرأس إلى الثديين إلى أن يدخل الإنسان يديه في كميهما فجعل المنفق كمن لبس درعاً سابغة ، فاسترسلت عليه حتى سترت جميع بدنه ، وجعل البخيل كمثل رجل غلت يداه إلى عنقه ، فكلما أراد لبسها اجتمعت إلى عنقه ، فلزقت ترقوته ، والمراد أن الجواد إذا هم بالصدقة انفسح لها صدره ، وطابت نفسه ، وتوسعت في الإنفاق ، والبخيل إذا حدثه بها ، شحت بها ، فضاق صدره ، وانقبضت يداه .فهذا مَثَلُانشِراحِ صدر المؤمن المتصدِّق ، وانفساحقلبه ، ومثلُ ضِيقِ صدر البخيل وانحصارِ قلبه.
ومنها : الشجاعة ، فإن الشجاع منشرحالصدر ، واسع البطان ، متِّسعُ القلب ،والجبانُ : أضيق الناس صدراً ، وأحصرُهم قلباً، لا فرحة له ولا سرور ، ولا لذة له ، ولا نعيمإلا منْ جنس ما للحيوان البهيمي ، وأما سرورالروح ، ولذتُها ، ونعيمُها ، وابتهاجُها ،فمحرَّمٌ على كل جبان ، كما هو محرَّم على***خيلٍ ، وعلىكُلِّ مُعرِض عن الله سبحانه ،غافلٍ عن ذِكره ، جاهلٍ به وبأسمائه تعالىوصفاته ، ودِينه ، متعلق القلبِ بغيره . وإنهذا النعيم والسرور، يصير في القبر رياضاًوجنة ، وذلك الضيقُ والحصر، ينقلبُ في القبرعذاباً وسجناً .فحال العبد في القبر،كحالالقلب في الصدر ، نعيماً وعذاباً وسجناًوانطلاقاً ، ولا عبرةَ بانشراح صدر هذا لعارض، ولا بضيقِ صدرِ هذا لعارض فإن العوارِضَتزولُ بزوال أسبابها ، وإنما المعوَّلُ علىالصِّفة التي قامت بالقلب توجب انشراحه وحبسه، فهي الميزان والله المستعان .
ومنها بل من أعظمها :إخراجُ دَغَلِالقَلْبِ من الصفات المذمومة التي تُوجب ضيقهوعذابه ، وتحولُ بينه وبين حصول البُرء ، فإنالإنسان إذا أتى الأسباب التي تشرحُ صدره ،ولم يُخرِجْ تلك الأوصافَ المذمومة من قلبه ،لم يحظَ مِن انشراح صدره بطائل ، وغايته أنيكون له مادتان تعتوِرَانِ على قلبه ، وهوللمادة الغالبة عليه منهما .
ومنها : تركُ فضولِ النظر ، والكلام، والاستماع ، والمخالطةِ ، والأكل ، والنوم ،فإن هذه الفضولَ تستحيلُ آلاماً وغموماً،وهموماً في القلب ، تحصُرُه ، وتحبِسه ،وتضيِّقهُ ، ويتعذَّبُ بها ، بل غالِبُ عذابِالدنيا والآخرة منها ، فلا إله إلا اللهُ ماأضيقَ صدرَ من ضرب في كل آفةٍ من هذه الآفاتبسهم ، وما أنكَدَ عيشَه ، وما أسوأ حاله ، وماأشدَّ حصرَ قلبه ، ولا إله إلا الله ، ما أنعمَعيشَ مَنْ ضرب في كل خَصلةٍ من تلك الخصالالمحمودة بسهم ، وكانت همتُّه دائرةً عليها ،حائمةً حولها ، فلهذا نصيب وافر مِنْ قولهتعالى : ((إِنَّالأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ))[ الانفطار : 13 ]ولِذلك نصيب وافر من قوله تعالى : ((وَإِنَّالْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ))[ الانفطار : 14 ] ، وبينهما مراتبُ متفوتة لايُحصيها إلا اللهُ تبارك وتعالى .
والمقصود : أن رسولَ الله صلى اللهعليه وسلم كان أكملَ الخلق في كلِّ صفة يحصلبها انشراحُ الصدر، واتِّساعُ القلب ، وقُرةُالعين ، وحياةُ الروح ، فهو أكملُ الخلق فيهذا الشرح والحياة ، وقُرَّةِ العين مع ماخُصَّ به من الشرح الحِسِّيِّ ، وأكملُ الخلقمتابعة له ، أكملُهم انشراحاً ولذة وقرة عين ،وعلى حسب متابعته ينالُ العبد من انشراح صدره، وقُرة عينه ، ولذة روحه ما ينال فهو صلى اللهعليه وسلم في ذروة الكمال مِن شرح الصدر، ورفعالذكر، ووضع الوِزر ، ولأتباعه من ذلك بحسبنصيبهم من اتِّباعه ، والله المستعانُ .
وهكذا لأتباعه نصيبٌ من حفظ اللهلهم ، وعصمتِه إياهم، ودفاعِه عنهم، وإعزازهلهم ، ونصرِه لهم ، بحسب نصيبهم من المتابعة ،فمستقِلٌّ ، ومستكثِر . فمن وجد خيراً ،فليحمد الله . ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومنَّإلا نفسه .
واتمنى ان ينال الموضوع اعجابكم
ولكم جزيل الشكر