الحمدُ لله وكفى وسلامٌ على عِبـاده الذين اصطفى لا سيما نبينا المصطفى ومن بآثاره وسننه اقتفى واكتفى وارتضى واهتدى وارتضى
صلى عليه الله في الأولين وصلى عليه في الآخـرين وصلى عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدّين
وبعد
السّــلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
فبين أيديكم يا حفّـاظ القرءان قبســات نورانيّة , تُذكّركم بعظيم ما حفظتم في صدوركم , وتُذكّر من قصّر في حقّ القرءان , وقصّر في إلتزام أوامر القرءان , ونسي فضل الله عليه الذي لا يؤتيه إلّا من يشــاء من عبــاده, وهو موضوع مُتجدد بإذن الله تعالى , لعل قلباً وعى القرءان وغفل أن يستيقظ ويعود إلى معاهدته , أو قلباً عشق القرءان حتى يعينه الله على حفظه ..
ومُقدّمتنا بعبــارة استقيتها من بعض تجاربي وهي ::
لم أر لحفظ القرآن أفضل من ترك المعاصي ,فلا تستبدل أبدا الرخيص بالغالي
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
وأُعرّج بداية على ما استهل به أئمتنا العِظـام به كُتب ومؤلفاتهم الشرعيّة , وهو حديثُ الإخــلاص .. وإليكمُ الكلام التـالي ::
إن أسأس الحفظ والنسيان هو وجود وعدم وجود الإخلاص
فحين يوجد الإخلاص يزيد الحفظ قوة
وحين يذهب الإخلاص سرعان ما يذهب الحفظ ورائه
وإخلاص النية لله عز وجل وإصلاح القصد وجعل حفظ القرآن والعناية به من أجل الله تعالى والفوز بجنته والحصول على مرضاته فلا أجر ولا ثواب لمن قرأ وحفظ رياء أو سمعة ولا شك أن من قرأ القرآن مريدا الدنيا وزينتها فهو آثم .
قال الله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ – هود 15-16}
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
ويقول سبحانه {مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا } الإسراء
وأخرج مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(( إن أول الناس يقضى عليه يوم القيامة رجل استشهد ، فأتي به ، فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما عملت فيها؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ،
قال : كذبت ، ولكنك قاتلت ليقال جريءٌ ، فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه نعمه ، فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ،
قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال قارىءٌ فقد قيل ، ثم أُمر به فسحب على وجهه حتى أُلقي في النار ، ورجل وسع الله عليه ، وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟
قال : ما تركت من سبيل يُحبُّ أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال : هو جواد ، فقد قيل : ثم أُمر به فسحب على وجهه ، ثم ألقي في النار ))
نعـوذ بالله العظيم من النّـار وحرّ النــار .. ونسأله تعالى الجنّة مع الأبرار ..
برحمته إنّه عزيز ٌ غفّــار
عزمٌ يصـول ، و همّـةٌ تترفـعُ ** و سواعـدٌ نحـو العـلا تتطلـعُ
ومعالـمٌ ُبنيـت بنهـج عقـيـدةٍ ** و بناؤهـا المرفـوع لا يتصـدعُ
يا قـارىء القـرآن ألـف تحيـة ** قل لـي بربـك أيَّ بـاب تقـرع
النور نورك و الملائـك تنتشـي ** في جانبيك ، وعطرُها يتضوع(1)
اسلك سبيل الحفظ و اهنـأ كلمـا ** ناداك للجنـات بـابٌ أوسـع(2)
يا قارىء القرآن رتّـل و ارتـقِ ** فالربُّ يجزلُ .. والقراءة تشفـعُ
يا قارىء القرآن رتّـل و ارتـقِ ** لك في رحـاب الله عيـشٌ أمتـعُ
واشرح فؤادك بالكتاب و ذع بـه ** في دهرنا ، ولك المكان الأرفع(3)
فالعلم نـورٌ و انتصـار عقيـدةٍ ** و الجهل مرّ الدهـر .. لايُتجـرع
والنفس في روض الكتاب سعيـدةٌ ** والعين في حسن اللطائـف ترتـع
دع من يبـدل كـل يـوم ٍ حلّـةً ** فالذكـر حلّـة جوهـرٍ لا تخلـع
آي الكتـاب خزائـن ممـلـوءة بالمكرمـات ، و كـل دارٍ بلقـع
بالذكر يُخشـى الله جـل جلالـه ** فالقلب يخفق ، و المآقي تدمع(4)
و الذكر يخلـد بعـد صاحبـه إذا ** آثاره اندرست وطال المضجع(5)
أخلص الى الله العزائم واعتصـم ** فمـن استعـان بربـه لا يجـزع
سبحان من ملك الوجـود بعلمـه ** هو دافع الأمـر الـذي لا يُدفـع
لاتبغ في حفـظ الكتـاب قناعـةً ** و ابـذل لحفظـك همـة لاتقنـع
و لقد ينالك في الطريـق مشقـةٌ ** لكـن أسقـام الجهالـة أوجــع
قد يغلب النفس الشقاء فترعـوي ** فاصرفْ أعنّتها إلـى مـا ينفـع
وَ رِد المناهل واستطب من شهدها ** واسْتَبق أجمل ما يقـال ويسمـع
واسلـم لأمتـك الـرءوم فعينهـا ** ترنو إلى عزم الشبـاب وتطمـع
بالديـن و العلـم المفيـد حياتهـا ** وإذا غوت عنه استبان المصـرع
ولئن أضعنا الدين و العلـم الـذي ** يُحيي .. فنحن لما سواها أضيـع
صالـح العمـري - الظـهـران
(1) لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الملائكة لتبسط أجنحتها لطالب العلم رضا بما يصنع)
(2) للحديث الشريف: (من سلك طريقاً يبتغي فيه علما سهل الله له طريقا الى الجنّة)
(3) لقوله تعالى: { يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} المجادلة/11
(4) لقوله تعالى: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} فاطر/82
(5) للحديث الشريف: ( إذا مات إبن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث ..
وذكر منها " وعلم ينتفع به" )
يا حافظ القرآن أبشر
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
الحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات، يسّر بفضله ومنته حفظ كتابه لمعشر المسلمين الطيبون والطيّبات،
فرأينا فيهم تحقيق موعود الله بتيسير القرآن للحفظ والذّكر، كما قال عزّ وجلّ : ( ﴿ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْءَانَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ ﴾) [ القمر :40 ] .
أما بعد :
فيا حافظ القرآن هنيئاً لك فقد استعملك الله لحفظ كتابه في الأرض:
فكنت ممن حقق الله بهم موعوده في قوله: ( ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ ) [ الحجر : 9 ] .
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
يا حافظ القر آن لا تستقلّ ما فعلت فإنّ ما بين جناحيك هو العلم :
: ( ﴿ بَلْ هُوَ ءَايَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ ﴾) [ العنكبوت : 49 ] .
ففي صدرك كتاب لا يغسله الماء، وقد جاء في الكتب المقدسة في صفة هذه الأمة :
"أناجيلهم في صدورهم" .
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
يا حامل القرآن أنت المحسود بحقٍّ، المغبوط بين الخلق :
حسدك هو الحسد الجائز، قال النبي : "لا تَحَاسُدَ إِلا فِي اثْنَتَيْنِ : رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ
وَآنَاءَ النَّهَارِ فَهُوَ يَقُولُ : لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي
حَقِّهِ فَيَقُولُ : لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِيَ عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ " [ رواه البخاري 6974 ] .
والحسد الجائز هو الغبطة وهي تمني مثل ما للغير من الخير دون تمني زوال النعمة عنه .
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
يا حافظ القرآن ويا أترجة الدنيا:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "مَثَلُ الْمُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّةِ ريحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا طَيِّبٌ "
[ رواه البخاري رقم 5007 ومسلم 1328 ] وعنون عليه في صحيح مسلم : باب فضيلة حافظ القرآن .
قوله : ( طعمُها طيِّبٌ وريحُها طيبٌ ) خصَّ صفة الإيمان بالطعم وصفة التلاوة بالرائحة؛ لأنّ الطّعم أثبت وأدوم من الرائحة .
والحكمة في تخصيص الأترجة بالتمثيل دون غيرها من الفاكهة التي تجمع طيب الطعم والريح أنها
يُتداوى بقشرها، ويُستخرج من حبِّها دهنٌ له منافع، وقيل : إن الجن لا تقرب البيت الذي فيه الأترج .
فناسب أن يمثّل به القرآن الذي لا تقربه الشياطين, وغلاف حَبِّه أبيض فيناسب قلب المؤمن, وفيها أيضاً
من المزايا كبر جرمها وحسن منظرها وتفريح لونها ولين ملمسها، وفي أكلها مع الالتذاذ طيب نكهة وجودة هضم ودباغ معدة .
يا حــفّاظ القرءان .. لحظة هنا
يا حافظ القرآن أتدري أين رتبتك ؟
روت أمُّنا عَائِشَة عَنْ النَّبِيِّ قَالَ : "مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ مَعَ السَّفَرَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ"
[ البخاري 4556 ] .
والسفرة : الرسل؛ لأنهم يسفرون إلى الناس برسالات الله, وقيل : السفرة : الكتبة ,
والبررة : المطيعون , من البر وهو الطاعة.
والماهر : الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا تشق عليه القراءة لجودة حفظه وإتقانه,
قال القاضي : يحتمل أن يكون معنى كونه مع الملائكة أن له في الآخرة منازل يكون فيها رفيقاً للملائكة
السفرة؛ لاتصافه بصفتهم من حمل كتاب الله تعالى . قال : ويحتمل أن يراد أنه عامل بعملهم
وسالك مسلكهم .
والماهر أفضل وأكثر أجراً ; لأنه مع السفرة وله أجور كثيرة, ولم يذكر هذه المنزلة لغيره,
وكيف يلحق به من لم يعتن بكتاب الله تعالى وحفظه وإتقانه وكثرة تلاوته وروايته كاعتنائه حتى مهر فيه؟! والله أعلم .
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو عَن النَّبِيِّ قَالَ :
" يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأْ وَارْتَقِ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا،
فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَأُ بِهَا"
[ رواه الترمذي 2838 وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ] .
قوله : ( يقال ) أي عند دخول الجنة ( لصاحب القرآن ) أي : مَنْ يلازمه بالتلاوة والعمل
( وارتق ) أي : اصعدإلى درجات الجنة، ( ورتل ) أي : اقرأ بالترتيل ولا تستعجل بالقراءة
( كما كنت ترتل في الدنيا ) من تجويد الحروف ومعرفة الوقوف ( فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها )، قال الخطابي : جاء في الأثر أن عدد آيالقرآن على قدر درج الجنة في الآخرة , فيقال للقارئ أرق في الدرج على قدر ما كنت تقرأ من آي القرآن , فمن استوفى قراءة جميع القرآن استولى على أقصى درج الجنة في الآخرة ,
ومن قرأ جزءاً منه كان رقيُّه في الدرج على قدر ذلك, فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة