الحمد لله رب العالمين ، و الصلاة و السلام على سيدنا محمد الصادق
الوعد الأمين اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم ،
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً ، وأرنا الحق حقاً
وارزقنا اتباعه ، و أرنا الباطل باطلاً و ارزقنا اجتنابه ، واجعلنا ممن
يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين .
أيها الإخوة المؤمنون، عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ
الأَنْصَارِيِّ قَالَ : ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ : الْبِرُّ حُسْنُ
الْخُلُقِ ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي صَدْرِكَ ، وَكَرِهْتَ أَنْ
يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)) .
(صحيح مسلم)
عَنْ
وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الأَسَدِيِّ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ : جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ
الْبِرِّ وَالإِثْمِ ؟ قَالَ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَجَمَعَ
أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ : اسْتَفْتِ نَفْسَكَ ،
اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلاثًا ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ
إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، والإِثْمُ مَا
حَاكَ فِي النَّفْسِ ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ
النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) .
(سنن الدارمي)
هذان الحديثان علامَ يدلان ؟ على كلمة واحدة : البر ، الفطرة .
أيها الإنسان فُطِرت فطرة عالية ، بحيث لو فعلت شيئاً سيئاً شعرت
بالضيق ، ترددت ، حاك هذا في صدرك ، كرهت أن يطّلع عليه الناس ، من دون علم
ومعلومات ، من دون تدريس وتوجيه ، من دون قراءة من دون خطابة ، الله
سبحانه وتعالى تفضّل على الإنسان ففطره فطرة عالية ، بحيث إذا أساء عذبته
فطرته ، مرة ثانية : عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ
: ((سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ
الْبِرِّ وَالإِثْمِ فَقَالَ : الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ ، وَالإِثْمُ مَا
حَاكَ فِي صَدْرِكَ ، وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)) .
(صحيح مسلم)
عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الأَسَدِيِّ ((أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ : جِئْتَ تَسْأَلُ
عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ ؟ قَالَ قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَجَمَعَ
أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ : اسْتَفْتِ نَفْسَكَ ،
اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلاثًا ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ
إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، والإِثْمُ مَا
حَاكَ فِي النَّفْسِ ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ
النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ)) .
(سنن الدارمي)
إذاً
نستنبط استنباطًا آخر : أن الفتوى وحدها من دون أن تطمئن وترتاح لها لا
تنجيك من عذاب الله ، وأكبر دليل عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ((إِنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ
بَعْضٍ ، وَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِمَا يَقُولُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ
بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِقَوْلِهِ : فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ
قِطْعَةً مِنَ النَّارِ فَلا يَأْخُذْهَا )) .
(مسند الإمام أحمد)
إذاً هل من فتوى أعظم من أن يفتي النبي عليه الصلاة والسلام وهو
المعصوم وهو المشرّع وهو سيد الخلق ؟ لو انتزعت من فم النبي فتوى ولست
محقاً ، وحاك في صدرك ، وتردد في صدرك ، وشعرت بالحرج والضيق ، وضاقت نفسك ،
ووخزك ضميرك ، وانقبض قلبك ، فالفتوى لا قيمة لها ، لذلك قالوا : الفتوى
تحتاج إلى تقوى ، وقالوا : هناك فتوى ، وهناك تقوى ، فالتقوى أن تراقب الله
عز وجل ، وأن تجعل من اطمئنان قلبك ونفسك مقياساً صحيحاً لهذا الذي تقبله
من الفتاوى أو تفتيه من الفتاوى .
بالمناسبة كلما كنت جباناً في الفتوى كانت هذه صفة عالية فيك ، وكلما كنت جريئاً في الفتوى كانت هذه الجرأة جسراً إلى النار .
قبل أن تفتي للناس ، والحقيقة المشكلة الإفتاء اختصاص ، فالإنسان يدرس
الأحكام الشرعية بعمق بالغ ، بتوسع كبير ، بإطلاع واسع ، بدراسة المذاهب
كلها ، فإذا سئل ربما أجاب ، أما الناس فقد ألفوا أن أي إنسان له مسحة
دينية أصبح مفتيًا ! يقول : سألت إمام الجامع ، هل الإمام مفتٍ ؟ الإمام
يقرأ القرآن ، يوجد إمام وخطيب وعالم وداعية وقاض ومجتهد ومفتٍ ، الإفتاء
شيء ، والاجتهاد شيء والقضاء شيء والفتوى شيء والدعوة شيء ، الداعية غير
العالم والعالم شيء والخطيب شيء والمدرس الديني شيء ، والإمام شيء والقارئ
شيء ، كلٌّ اختصاصه ، فسبحان الله أي إنسان له مسحة دينية رقيقة يسأله
الناس دائماً ! أكثر سؤالات في الطلاق والإجهاض والمواريث وتوزيع الإرث ،
يسأل عنها أناسًا لا يعلمون شيئاً ، لذلك ليس العلم الديني كلأً يرعاه كل
الناس ، اختصاص ، قد تكون ديّنًا ، وقد تكون عابدًا ، وقد تكون ورعًا ، وقد
تكون مؤمنًا ، وقد تكون ناجيًا ، ولكن أن تفتي فهذا شيء كبير جداً .
قصة تلوتها عليكم عشرات المرات ، أعلم علماء العصر الإمام أحمد بن حنبل
جاءه وفد من المغرب العربي ، أعتقد الطريق يحتاج إلى ثلاثة أشهر ، ومعه
ثلاثون سؤالاً ، وعرضوا هذه الأسئلة على الإمام أحمد فعرف منها سبعة عشر
سؤالاً ، فلما سألوه عن الأسئلة الباقية قال : لا أعلم ، فقالوا : جئناك من
أقصى الدنيا ، وأنت الإمام أحمد ، إمام العصر ولا تعلم ، فقال : قولوا لهم
: الإمام أحمد بن حنبل لا يعلم ، وطّن نفسك أن تقول : لا أعلم ، مهما كنت
كبيرًا جداً ، وعظيما جداً ، إذا قلت : لا أعلم ، اسأل غيري ، وهذا الذي
يسرع بالإجابة لا يعلم حقيقة لا يعلم .
هذا الحديث متواتر تواترًا معنويا ، ورد بصيغ عديدة ، فإذا تواتر الحديث تواتراً معنوياً فالموضوع مهم جداً .
عَنْ وَابِصَةَ الأَسَدِيِّ قَالَ : ((أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ لا أَدَعَ شَيْئًا
مِنَ الْبِرِّ وَالإِثْمِ إِلا سَأَلْتُهُ عَنْهُ ، وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَفْتُونَهُ ، فَجَعَلْتُ أَتَخَطَّاهُمْ قَالُوا :
إِلَيْكَ يَا وَابِصَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قُلْتُ : دَعُونِي فَأَدْنُوَ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ
إِلَيَّ أَنْ أَدْنُوَ مِنْهُ قَالَ : دَعُوا وَابِصَةَ ادْنُ يَا
وَابِصَةُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا قَالَ: فَدَنَوْتُ مِنْهُ حَتَّى
قَعَدْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ : يَا وَابِصَةُ أُخْبِرُكَ أَوْ
تَسْأَلُنِي ؟ قُلْتُ : لا بَلْ أَخْبِرْنِي ، فَقَالَ : جِئْتَ
تَسْأَلُنِي عَنِ الْبِرِّ وَالإِثْمِ ، فَقَالَ: نَعَمْ فَجَمَعَ
أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ : يَا
وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ ، وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ،
الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَالإِثْمُ مَا حَاكَ فِي
النَّفْسِ ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ
وَأَفْتَوْكَ )) .
(مسند الإمام أحمد)
أخ كريم وجد
محضرًا في بعض أحياء دمشق الحساسة ، استطاع بذكاء بارع أن ينزل بالمزاد
بشكل تمثيلي ، فالمحضر مثلاً - هذه قصة من اثنتي عشرة سنة - سعره سبعمائة
وخمسين ألفًا ، تمكن من إنهائه بأربعمائة وخمسين ألفًا ! المزايدات قليلة
جداً ، ثم جاء يسألني قال : تمكنت أن أشتري هذا المحضر بمبلغ اقل من ثمنه
الحقيقي بالثلث تقريباً ! فما الحكم الشرعي ؟ طبعاً بهذا المحضر ، من أصحاب
المحضر أيتام ، قلت : لماذا جئت تسألني ؟ قال: لأنني متضايق ، قلت له :
هذا هو الجواب ! الإنسان عندما يسأل يكون منزعجًا وقلقًا ، لو فرضنا أنك
عطشان ، وبرّاد الماء جاهز ، والكأس جاهزة ، والماء بارد ، وترغب بماء بارد
، وجسمك يحتمل الماء البارد ، شربت كأس ماء بارد ، ممكن أن تسأل عنها
مفتيًا أنك فعلت شيئا خطأ ، هل لها مشكلة ؟ ما الحكم الشرعي ؟ هنا لا يهمك
لأنها بديهية ، الحلال ليس له مشكلة ، لا أحد يختلف عليه ، لا أحد يسال عنه
، أولادك يطلبون الفاصولياء ، أحضرت الفاصولياء واللحمة ، وطهيتهم ،
وأكلتم فاصولياء ورزا ، هل يلزم هذه سؤال مفتٍ؟ بديهي ، فعندما تسأل يعني
هذا أنك قلق ، لماذا ؟ لأنه أصبح هناك تردد ، بمجرد أن تسأل أنت قلق ، لذلك
قالوا : نفي الشيء أحد فروع تصوره .
إذا باعك أحدهم شيئًا
قال لك : أنا لم أرفع الثمن عليك ، معنى هذا أنه رفع الثمن عليك ! هو شعر
بوخز ضمير فبادر إلى النفي ، وهذا النفي إثبات ، أحياناً الإنسان الذي
ينفيه كأنه يثبته !
لذلك قالوا : نفي الشيء أحد فروع تصوره .
هناك رواية ثانية : قال : سمعت وابصة ، وذكر الحديث مختصراً ، ولفظ
الحديث المختصر : ((البر ما انشرح له الصدر ، والإثم ما حاك في صدرك ، وإن
أفتاك عنه الناس)).
لذلك لي كلمة شهيرة : كل إنسان سألني سؤال
أقول له : الفتوى موجودة ، تريد الفتوى أم التقوى ؟ فإن كنت تبحث عن الفتوى
فليس هناك مشكلة ، إنك تجد لكل معصية فتوى ، وعوام الناس يقولون لك : ضعها
برقبتي ، من أنت ؟ ومن أنت حتى أدعها في رقبتك ؟
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند
من أنتم ؟ أنتم فقهاء ؟ هل أنتم مرجع في الدين ؟ مجتهدون علماء ؟
وفي رواية رابعة ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ : أَنَّ رَجُلا سَأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((مَا الإِيمَانُ ؟ قَالَ :
إِذَا سَرَّتْكَ حَسَنَتُكَ ، وَسَاءَتْكَ سَيِّئَتُكَ ، فَأَنْتَ مُؤْمِنٌ
، قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا الإِثْمُ ؟ قَالَ : إِذَا حَاكَ فِي
نَفْسِكَ شَيْءٌ فَدَعْهُ)) .
(مسند الإمام أحمد)
الشيء
الذي له إشكال ضيق تردد خوف قلق خجل دعه ، وأدق ما في هذا المعنى قول
حَسَّان بْن أَبِي سِنَانٍ : (مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَهْوَنَ مِنَ
الْوَرَعِ دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ ) .
(صحيح البخاري)
وفي رواية أخرى ، عَنْ الْخُشَنِيِّ يَقُولُ : ((قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ : أَخْبِرْنِي بِمَا يَحِلُّ لِي وَيُحَرَّمُ عَلَيَّ قَالَ :
فَصَعَّدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَوَّبَ فِيَّ
النَّظَرَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْبِرُّ
مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ،
وَالإِثْمُ مَا لَمْ تَسْكُنْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَلَمْ يَطْمَئِنَّ
إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ الْمُفْتُونَ)) .
(مسند الإمام أحمد)
أحياناً الإنسان يستفتي إنسان يتلقى الفتوى لصالحه ، وتجده يبحث عن
إنسان آخر يسأله ، وتأتي الفتوى الثانية لصالحه ، يبحث عن إنسان صالح ، هذا
البحث والتجول بين المفتين دليل قلق .
عن وائل ابن الأتقع رضي
الله عنه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : ((أفتني عن أمر لا أسأل عنه
أحداً بعدك ، فقال عليه الصلاة والسلام : استفتِ نفسك ، قلت : كيف لي بذلك
؟ قال : تدع ما يريبك إلى مالا يريبك ، وإن أفتاك المفتون ، قلت : كيف
بذلك ؟ قال : تضع يدك على قلبك فإن الفؤاد ليسكن للحلال ، ولا يسكن
للحرام)) .
الفؤاد يسكن ويرتاح للحلال ، ولا يسكن ولا يرتاح للحرام .
ورواية سابعة : عن عبد الله بن معاوية بن حديج أن رجلا سأل النبي صلى
الله عليه وسلم ، فقال : ((يا رسول الله ، ما يحل لي مما يحرم علي ؛ فسكت
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فردد عليه ثلاثا، كل ذلك يسكت رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، ثم قال أين السائل ؟ ثم قال: أنا ذا يا رسول الله ،
قال ونقر بأصبعه : ما أنكر قلبك فدعه )).
(كنز العمال ، للمتقي الهندي )
وفي حديث مختصر مفيد صحّ عن ابن مسعود ، ولعله رفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((الإثم حزاز القلوب)) .
إذا أحضر الإنسان شفرة ، وشد عضلاته ، وحركها على جلده يشهر بوخز
الجرح ، حز ألم شطب ألم الجرح ، فقال : الإثم حزاز القلوب ، تشعر بأن قلبك
جرح ، تشعر بحجاب نشأ بينك وبين الله ، تشعر أن القضية غير صحيحة غير
مقبولة غير مريحة .
الهدف من هذا الدرس : أن ينمو أيها الإخوة عندكم حس فطري ، يدلكم على الحلال وعلى الحرام .
وفي رواية أخرى لهذا الحديث المقطوع أو المرفوع : قال عبد الله : ((إياكم وحزاز القلوب)) .
الإثم حزاز القلوب ، بالمناسبة أحياناً يكون ميزان الإنسان دقيقًا جداً
، أحياناً يكون في الميزان خطأ ، مثل القبّان ، ضع عليه ورقة هل تتحرك ؟
مجموعة لا تتحرك ، كتاب لا يتحرك ابدأ بالكيلو ، هناك ميزان يتحرك بكتاب ،
وميزان يتحرك بورقة ، تضع الورقة ، وتزنها تكتب كلمة : محمد ترجح كفة !
فكلما كان إيمان المؤمن عاليًا يكون ميزانه حساسًا ، يحاسب نفسه على النظرة
، على الكلمة ، على الالتفاتة ، على الابتسامة ، على حركة رأس ، إذا قال
أحدهم له : أفعلها ، فيها ظلم ؟ إذا هزّ برأسه بالموافقة فأصبح شريكه
بالإثم ! من أعان ظالماً ولو بشطر كلمة ، شطر كلمة وليس كلمة بكاملها ، جاء
يوم القيامة مكتوب على جبينه : آيس من رحمة الله ! وفي قول : من أعان
ظالماً سلّطه الله عليه .
قال عبد الله : (إياكم وحزاز القلوب ، وما حزّ في قلبك فدعه) .
وقال أبو الدرداء : (الخير في طمأنينة ، والشر في ريبة) .
وروى بن مسعود من وجه منقطع أنه قيل له : (أرأيت شيئاً يحيك في صدورنا
لا ندري حلال هو أم حرام ؟ فقال : إياكم والحكاكات فإنها الإثم) .
الحكاكات التي تحيك في الصدور ، لست مرتاح ، يقول لك : لم أرتح لهذه
القسمة ، كتبت وصية ولم أرتاح ، باع البيت ولم يرتاح ، في البيت عيب ، في
ضعف في الأساسات ، فلما اشتراه مشترٍ لم يقل له شيئًا ، قال له : حاضر حلال
، تفضل انظر ، البيت واضح ، لكن هذه علّة خفية .
أنا أعرف رجلا
لديه مركبة فيها عطل كبير في المحرك ، فقال لي : في مساء اليوم الذي باعها
: الحمد لله بعتها ، وألبستها لرجل آخر ، وقال هذا مفتخراً ، وكأنه عدّ
نفسه ذكياً ، واشترى سيارة من طرطوس جاهزة ، وأخذها أفخر نوع ، وبلونٍ كحلي
العروس ، أحضرها في اليوم الخامس أصيبت بحادث جعلتها مسطحة ! فجاءني وقد
علاه الضجر ، فقلت له : ألم تقل لي قبل خمسة أيام : ألبستها لرجل ؟ الإثم
ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس ، إخفاء العيب غش حرام ، سواء في
بيع بيت أو سجادة ، يسترخصها المشتري فيها علة إذاً ، أما إذا ذكرت العلة
وخفضت الثمن فلا شيء عليك .
النبي عليه الصلاة والسلام فسّر
البر بحسن الخلق ، وفسره بما اطمأنت إليه النفس ، فمرة ثانية تعقيباً على
الدرس السابق الإنسان الذكي العاقل يعرف نمط جسمه مبدئياً ، هذه الأكلة لا
تناسبني ، هذه الأكلة تسبب لي إعياءً ، هذه الأكلة هضمها صعب ، أحياناً
يتحسس حساسية دقيقة جداً ، ليت هذا الإنسان الحريص على جسمه وعلى أجهزته
وأعضائه يتحسس الحساسية نفسها بقلبه ، هذا العمل أظلم له قلبه ، هذا العمل
حجبه عن الله ، هذا العمل أساء له ، هذا العمل أربكه ، هذا العمل أشعره
بالقلق ، فكلما أصبح لدى الإنسان القدرة على الاستبطان الداخلي كما يسمى أو
تأمل الذات ، أو التضفر بالذات ، ويتابع أحوال قلبه ، من انطلاق إلى خمود
إلى قلق إلى تراجع إلى خجل إلى إقدام إلى فخر إلى حياء ، الإنسان الذي
يتتبع أحوال قلبه تتبع دقيق هذه علامة إيمانه ، وهذا ما أكده سيدنا عمر قال
: (تعاهد قلبك) ، لماذا أقبلت على الله في الصلاة ؟ لماذا هذه الصلاة
صليتها محتجباً عن الله ؟ شعرت بالحجاب ، الحجاب معه مخالفة .
البر هو الإحسان ، وهو معاملة الخلق بالإحسان إليهم ، الإحسان كلمة مطلقة
لن تكون مؤمناً إلا إذا أحسنت للآخرين إحساناً مطلقاً في كل الأحوال ،
بعضهم قال : أولى الناس بالإحسان الوالدان ، وبعضهم قال : الإحسان إذا أطلق
انطلق للإحسان للخلق عموماً .
َ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِي اللَّهم عَنْهم قَالَ : ((جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ
النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : أُمُّكَ ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟
قَالَ : ثُمَّ أُمُّكَ ، قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ثُمَّ أُمُّكَ ،
قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ثُمَّ أَبُوكَ)) .
(صحيح البخاري)
وقد قيل :
أخي البر شيء هين وجه طلق وكلام لين
عن جَابِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ : ((الْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلا الْجَنَّةَ ،
قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللَّهِ مَا الْحَجُّ الْمَبْرُورُ ؟ قَالَ :
إِطْعَامُ الطَّعَامِ ، وَإِفْشَاءُ السَّلامِ )) .
(مسند الإمام أحمد)
عندما قال ربنا عز وجل :
(سورة المائدة)
بعضهم قال : البر صلاح الدنيا ، والتقوى صلاح الآخرة ، بعضهم قال :
البر الإحسان والعمل الصالح ، والتقوى اجتناب المعاصي ، اتقِّ أن يعصي ،
البر الإحسان ، البر إيجابي ، والتقوى سلبية ، هذا معنى آخر .
(سورة المائدة)
الإنسان قد يأثم دون أن يعتدي ، لو فرضنا أنه شرب الخمر ، لم يعتدِ
على أحد ، لكنه اعتدى على نفسه ، فشربُ الخمر إثمٌ ، أما أن تغتصب مال أخيك
فهذا عدوان ، إذا كانت المعصية طالت الغير فهي عدوان ، أما إذا طالت النفس
وحدها فهي إثم .
بعضهم قال : البر أن يراد به فعل جميع الطاعات الظاهرة والباطنة . قوله تعالى :
(سورة البقرة)
فالبر جماع كل خير ، العقيدة الصحيحة مع العبادات ، مع المعاملات ، مع
الأخلاق ، مع الصبر ، هذا كله جاء في الآية براً ، وكل هذا تطمئن إليه
النفس .
عندما قال عليه الصلاة والسلام : ((البر حسن الخلق)) ،
بعضهم قال : قصد به التخلق بأخلاق الشريعة ، والتأدب بآداب الله التي أدب
بها عباده في كتابه ، حيث قال عن رسوله صلى الله عليه وسلم :
(سورة القلم)
وكان عليه الصلاة والسلام كما تقول السيدة عائشة : ((كان خلقه القرآن))
، فكان القرآن له خلقاً كالجبلة والطبيعة لا يفارقه ، أحياناً يتعرض
الإنسان إلى استفزاز ، فتحدثه نفسه بالانتقام ، لكن يقع في صراع ، فينتصر
على نفسه بشق الأنفس ، ويضبط أعصابه ، ويكظم غيظه ، ولا يفعل شيئاً ، هذا
ليس على خلق عظيم ، وصل لهذا الخلق بشق الأنفس ، وبمشادة مع نفسه كبيرة
جداً ، بجهاد كبير ، لكن المؤمن الكامل في الأعماق ، معنى في الأعماق تمكن
الأخلاق من نفسه ، الأخلاق العالية متغلغلة في أعماق أعماقِ نفسه ، احتمال
أن يتغير ، لكنه نادر جداً .
مثلا ، تخيل ميزانًا وضع في كفته
خمسة وعشرون كيلوًا ، لو أمسكت ليرة سورية ووضعتها فيه هل تحرك الليرة
الكفة ؟ مستحيل ، إذا الخلُق خمسة وعشرون كيلوًا ، والاستفزاز ليرة سورية
لا تؤثر ، لكن إذا كان الخلق كله ليرتين ، ووضعت ليرة ونصفًا مع نسمة هزة
بسيطة تجد أن الكفة اهتزت .
فهناك إنسان على الحرف دائماً ،
ينتكس ، وينهار ، وينفجر ، وينكث عهده ، وينتقم ، ويغضب بسرعة ، وهناك
إنسان عميق كلما ارتقى إيمانه تغلغل الخلق في أعماقه ، وفي كيانه كله حيث
لا تبدو عليه نكسات مفاجئة ، لأن النكسات المفاجئة لا تعرف طريقا إليه .
الآن أدق حديث قاله النبي عليه الصلاة والسلام متعلق بالفطرة ، وهو
قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عياض بن حمار : ((... وَإِنِّي خَلَقْتُ
عِبَادِي حُنَفَاءَ ...)) .
(صحيح مسلم)
معنى
حنفاء أي ميالين للحق ، أنت مفطور على ميل الحق ، مسلمين مستسلمين لأمر
الله ، لأن أمرَ الله عز وجل وفق الفطرة ، فإذا رأيت أمر الله وكانت الفطرة
سليمة أسلمت إليه وملت إليه ، الميل قلبي والاستسلام سلوكي ، عَنْ عِيَاضِ
بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ : ((أَلا إِنَّ
رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي
يَوْمِي هَذَا ، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلالٌ وَإِنِّي خَلَقْتُ
عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ
فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ
لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ
سُلْطَانًا ...)) .
(صحيح مسلم)
ففي الأصل الإنسان
مفطور على أن ترتاح نفسه لمعرفة الله ، ولطاعته ، مفطور بطريقة لا ترتاح
نفسه إلا لمعرفة الله وطاعته ، حنفاء مسلمين ، لكن الشياطين اجتالتهم عن
دينهم ، فحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به
سلطاناً .
والحديث الآخر ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي
اللَّه عَنْه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ
يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ، كَمَثَلِ
الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ)) .
(صحيح البخاري)
لمَ لمْ يقل النبي الكريم : أو يسلمانه ؟ لأن الإسلام بالفطرة ، لذلك قال تعالى :
[ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] border="0" alt="" />
(سورة الروم)
فإقامة وجهك للدين حنيفاً هو عين فطرتك ، وعين جبلتك ، وهو عين طبيعتك ، قال تعالى:
[ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] border="0" alt="" />
(سورة النحل)
العدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، هذا فطرة ، والفحشاء والمنكر والبغي هذا عكس الفطرة ، وقال تعالى في آية أخرى :
[ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] border="0" alt="" />
(سورة الأعراف)
قال الله عز وجل :
[ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] border="0" alt="" />
(سورة الرعد)
كلام رب العالمين ، هذا القلب قلق خائف وجل منقبض يائس ، إذا ذكر الله عز وجل اطمأن ، وارتاحت النفس .
عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سِمْعَانَ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ : سَأَلْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْبِرِّ
وَالْإِثْمِ فَقَالَ : ((الْبِرُّ حُسْنُ الْخُلُقِ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ
فِي صَدْرِكَ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاسُ)) .
(صحيح مسلم )
وهذه إشارة إلى أن الإثم ما أثر في الصدر حرجاً وضيقاً وقلقاً واضطراباً ، فلم ينشرح له الصدر .
بالمناسبة هناك من يظن أن الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات ، تتمة الحديث لا يعلمها كثير من الناس .
ما معنى هذا الكلام ؟ معنى هذا الكلام أن قليلاً من الناس يعلمون حقيقة
هذه المشتبهات ، إذاً اسأل عنها ، إذا وقع الإنسان بتردد يا ترى هذا حلال
أم حرام ؟ فقال : هذه إذاً شبهة ، مادام لها وجه حلال ووجه حرام معنى هذا
أنها شبهة ، هذه الشبهة من يعلمها ؟ يعلمها العلماء لكن عامة الناس لا
يعلمونها ، مثلاً رجل قال لك : أنا سأدينك مال لتشتري البيت ، لكن هذا
المبلغ يعادل ربع ثمن البيت ، تعطيني أجرة مادام هذا المبلغ معك ، فإن
وفيّتني إياه تنتهي الأجرة ، فظاهر الكلام أجرة ، دين وأجرة ، لكن مادام
المبلغ لا يزيد ولا ينقص ، ويضمنه صاحب البيت الذي اشتراه يضمنه ، لو احترق
البيت يكون المبلغ دينًا ، وأما الذي أخذه كل شهر فهذا ربا ، أما لو اتفق
الطرفان على أن هذا البيت ربعه لفلان فهلك البيت ، كإصدار قرار مصادرة ، أو
قرار استملاك ، أو تهدم ، أو احترق ، هذا على من ؟ الذي أعطاك المبلغ من
أجل أن يعينك على شرائه ، يقول لك : أنا لا دخل لي ، أنا أقرضتك أربعمئة
ألف ، أريدها كاملة ، فكل شيء قبضته أجرة فهي ربا ، أما إذا كنت مسؤولا عن
البيت لو هدم أو لو احترق أو لو أستملك فأنت مسؤول ، وتقيِّم البيت تقييمًا
جديدًا حينما وفيت الدين ، فالأجرة حلال .
اشترى فلان قطعة
فأعطيت الصانع مبلغًا ، حرام وحلال ، إذا اقتطعت هذا المبلغ من ربحك الخاص
فهو حلال ، ليس فيه إشكال ، أما إذا أضفته على المشتري دون أن يعلم ،
وأكرمت الصانع أصبح هذا حرامًا ، فحتى الشبهات يعلمها الخاصة من الناس ،
المتبحرون في الفقه يعلمونها ، إذا وقع الإنسان في شبهة ليسأل عنها .
الحقيقة المؤمن كما قال الله عز وجل :
(سورة الأحزاب)
أنت في الأساس مخير ، لكن بعد أن عرفت الله عز وجل ، وعرفت أمره ونهيه ،
كأن اختيارك قد انتهى ، أصبح اختيارك وفق الشرع ، إذا أنت مؤمن ، الطبيب
مثلاً بعد أن عرف الجراثيم والأوبئة والعدوى ودقائق الأمور ، لم يعد مخيرًا
، كل شيء يعقمه ، كأنه سلك طريقًا إجباريًا ، علمه بالعدوى والجراثيم
والأوبئة والمضاعفات ، علمه العالي جعله يسلك طريقاً إجبارياً ، كأن
اختياره ألغي .
هناك حالات خاصة بالصناعة لو أخطأت فيها لما
نجح العمل ، فالقواعد الخاصة تجعل كل من يعمل في هذه المصلحة يتحرك وفق هذا
المنهج ، وهذا البرنامج ، هذا البرنامج أصبح إجباري ، لأن كل أصحاب الصنعة
يبتغون الكمال لصنعتهم ، مادام يبتغي الكمال .
سألت مرة جراح
قلب قال لي : كل مراكز الجراحة في العالم متشابهة ، لأن القلب قوانينه
واحدة ، مادامت القوانين واحدة إذاً فالإجراءات متشابهة ، معنى هذا كل
مراكز جراحة القلب بالعالم تسلك ممرًا إجباريًا ، فأنت مخير ، لكن بعد أن
عرفت الحق ، وعرفت طريق الجنة ، وعرفت ما يرضي الله ، وما يغضب الله ، بعد
أن عرفت منهج الله ، عرفت ما يقرب وما يبعد ، فأنت بشكل أو بآخر ملزم ، لا
بد من أن تسلك هذا السبيل لتصل إلى الله عز وجل ، هذا معنى قوله تعالى :
[ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة][ندعوك
للتسجيل في المنتدى أو
التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط] border="0" alt="" />
هل
تستطيع ألاّ تصلي ؟ هل تستطيع ألاّ تغض بصرك ؟ هل تستطيع الكذب ؟ هل تأكل
مال حرام ؟ لا تستطيع ، انظر كيف أنك تسير في الطريق الإجباري ، لأنك مؤمن ،
لأنك آمنت بالله وعرفت منهجه ، وحرصاً على مصلحتك وعلى سلامتك وسعادتك في
الدنيا والآخرة ، سلكت هذا الطريق الإجباري .
أيها الإخوة :
الموضوع الذي أركز عليه في هذا الدرس أن تمتلك هذه الحساسية القلبية للحق
والباطل ، للحلال والحرام ، للمعروف والمنكر ، أن يشعر قلبك أن هذا منكر ،
أن تشعر نفسك أن هذا حرام ، أن تشعر أحاسيسك وفطرتك أن هذا لا يرضي الله ،
وأعظم شيء تنتقل الأمور من الإدراك إلى الشعور ، أحياناً الأقوياء في اللغة
العربية يتكلم بطلاقة من دون أن يعرب ، لكن يأتي لسانه وفق قواعد الإعراب ،
سمّاها العلماء : سليقة ، لكن الإنسان في بدايته يتكلم ويعرب ، كلما وصل
إلى كلمة يا ترى منصوبة أم مرفوعة ؟ مفعول به ، إذاً ينصبها ، خبر كان
ينصبها ، اسم كان يرفعها ، قبلها حرف جر يجرها ، دائماً يعرب مع كلامه ،
هذا ما ارتقى إلى مستوى السليقة ، لكن عندما ينطلق لسان الإنسان وفق قواعد
اللغة من دون وعي منه فهذا دليل كبير على قوته في اللغة ، عادة عندما يرتقي
الإنسان ويتحرك حركة عفوية وفق الشرع معنى هذا أن نفسه ارتقت ارتقاءً
كبيرًا جداً ، إلا في حالة واحدة إذا الإنسان انطمست بصيرته بالشهوات هذا
لم يعد قلبه مفتيًا له ، هذا إذا قلت له : استفتِ قلبك ، يقول لك : جاء
الحل ، هكذا يحدثني قلبي ! هذا أصبح دجالا ، إذا انطمس قلب الإنسان
بالشهوات هذه الأحاديث كلها تنطبق عليه ، لأن النبي قال : ((وَإِنِّي
خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ
الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ
مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ
أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا)) .
فالفطرة تصلح للمؤمن ، أما غير المؤمن فلا يحكَّم إلا بالشرع ، أما فطرته فقد تقوده للمعصية .
لذلك أيها الإخوة : قبل أن تفعل قبل أن تقدم على شيء ، إذا كان لديك
صفاء اسأل نفسك ، انقباض حرج حز قلبك ، حزاز القلب ، شعرت بضيق ، لست
مرتاحًا ، شعرت بحجاب بينك وبين الله دعه ، وانتهى الأمر ، شعرت بقلق دفعك
للسؤال ، لمجرد أنك تنطلق سائلاً فأنت في شك من أمرك ، حاك في صدرك ، فهذا
مقياس أضعه بين أيديكم للحلال والحرام ، أنا والله يخبرني إخوان كثيرون
بأنه غير مرتاح ، وزعت هذه القسمة ، ولست مرتاحًا ، هذا عذاب الفطرة ،
وعذاب الفطرة صعب جداً ومستمر ، لا يتوقف ، فدائماً أرح نفسك .
ذات مرة سألوا مئة زوج سؤالا علميًا : لماذا لا تخون زوجتك ؟ فجاءت ثلاثة
أجوبة ، طبعاً جاءت أجوبة كثيرة صنفوها في ثلاثة مستويات أخلاقية : أول قسم
لا يستطيعون ، لأن زوجاتهم معهم في العمل ، القسم الثاني لا يتحملون عبء
الذنب ، القسم الأرقى لا يحبون الخيانة .
عندما يصل الإنسان إلى
درجة لا يستطيع أن يعمل إثما لأنه ضُغِط عليه فهذه درجة جيدة ، وإذا كان في
الأساس تعاف نفسه المعصية هذه أرقى .