بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بشارات العهد الجديد
بمحمد صلى الله عليه وسلم
د. محمد بن عبد الله السحيم
بشارات العهد الجديد
بشارات متى:
البشارة الأولى: قال متى في الإصحاح الثالث مخبراً عن يوحنا المعمدان –
يحيى عليه السلام – أنه قال: (أنا أعمدكم بالماء – وذلك للتوبة وغفران
الخطايا – ولكن هناك شخص قادم بعدي وهو أقوى مني، لدرجة أنني لا أستحق حل
سيور حذائه، وسيعمدكم بالروح والنار). هذه البشارة أوردها كل من المهتدي
عبد الأحد داود والنجار، وأضاف إليها النجار بعض العبارات التي تذكر صفة
هذا القادم المنتظر، وهو قوله: (الذي رفشه بيده، وينقي بيدره، ويجمع قمحه
إلى المخزن، وأما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ) وأوضح هذه العبارات فقال:
(قوله: الذي رفشه بيده. ونسخة الآباء العيسويين: (الذي بيده المذري). إشارة
إلى ما قام من حروب وجهاد مع الكفار لنصرة دين الله وإعلاء كلمته. وقوله:
(وينقي بيدره) بمعنى يطهر موطنه من الأصنام ومن عبدتها المشركين. وقوله:
(ويجمع قمحه إلى المخزن) أي يجمع صحابته والمؤمنين به عند بيت الله الحرام.
(أما التبن فيحرقه بنار لا تطفأ). أي يقضي على عناصر الشر والفساد في
العالم، ويناهض أهل الشرك والضلالة وعبادة الأصنام).
أما عبد الأحد داود فقد اكتفى بهذا النص الذي أوردته، وأشار على هذه
الزيادة في ثنايا الشرح والتحليل. كما أنه أطال النفس في استنطاق هذه
النبوة من جانبين: الجانب الأول: نفى فيه أن يكون النبي الذي تنبأ به يوحنا
هو عيسى عليه السلام. وفي الجانب الثاني: أثبت أن هذا النبي المبشر هو
محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد قدم في الجانب الأول البراهين التالية:
1. أن نفس كلمة "بعد" تستبعد عيسى بكل وضوح من أن يكون هو النبي المبشر
به، لأن عيسى ويوحنا ولدا في سنة واحدة وعاصر أحدهما الآخر، وكلمة "بعد"
هذه تدل على مستقبل غير معلوم بعده.
2. أن يوحنا قدم المسيح عليه السلام إلى قومه وطلب منهم طاعته واتباعه،
إلا أنه أخبرهم بوضوح أن ثمة كوكباً آخر عظيماً هو الأخير الخاتم الممجد
عند الله.
3. لم يكن عيسى هو المقصود عند يوحنا، لأنه لو كان الأمر كذلك لتبع عيسى
وخضع له، ولكنا نجده على العكس من ذلك إذ نجده يعظ ويعمد ويستقبل الأتباع
في حياة المسيح عليهما السلام.
4. مع اعتقاد الكنائس النصرانية بأن المسيح إله أو ابن إله، إلا أن كونه
معمداً على يد يوحنا المعمدان يثبت أن الأمر بالعكس تماما، فلو كان عيسى هو
الشخص الذي تنبأ به يوحنا على أنه أقوى منه، وأنه سيعمد بالروح وبالنار –
لما كان هناك ضرورة أو معنى لتعميده في النهر على يد يوحنا وهو الشخص الأقل
منه .
5. تضاربت الأناجيل في موقف يوحنا من عيسى: فهو في أحدها يرسل التلاميذ
يسألونه: هل أنت النبي الذي سيأتي أم ننتظر واحداً آخر؟ أما يوحنا كاتب
الإنجيل فقد أثبت أن يوحنا لما رأى عيسى قال: انظروا حمل الله. ففي النص
الأول: يتبين أن يوحنا لم يكن يعرف حقيقة المسيح، وفي النص: ذكر وصفاً
مغايراً للنبي المبشر به.
6. لا يمكن أن يكون يوحنا هو سلف عيسى المبشر به بالمعنى الذي تفسر فيه
الكنائس بعثته، لأن من مهام هذا الرسول المبشر به أنه يمهد الطريق، وأنه
يأتي فجأة إلى هيكله ويقيم السلام. فإذا اعتبر أن هذه المهام قد أسندت إلى
يوحنا – فنستطيع أن نؤكد أنه فشل في تحقيقها فشلاً ذريعاً، لأن كل الذي قام
به يوحنا تجاه عيسى عليهما السلام أنه استقبله على نهر الأردن وعمده فيه –
كما زعموا -.
أما البراهين أو الأدلة التي قدمها هذا المهتدي على أن يوحنا قد بشر بمحمد صلى الله عليه وسلم فهي:
1. يتأكد من هذه النبوة شيء واحد وهو أن النبي الذي تمت البشارة بقدومه
معروف لدى كافة الرسل والأنبياء، وإلا لما اعترف شخص معصوم هذا الاعتراف
المتواضع.
2. أن إنكار الرسالة المحمدية هو إنكار أساسي لكل الوحي الإلهي، وكافة
الرسل الذين بشروا به، لأن جميع الأنبياء معاً لم ينجزوا العمل الهائل الذي
أنجزه محمد صلى الله عليه وسلم وحده في فترة قصيرة لم تتجاوز ثلاثة وعشرين
عاما.
3. اعتراف يوحنا بأن "محمداً" صلى الله عليه وسلم أعلى منه وأسمى قدراً،
يتضح ذلك من قوله "هو أقوى مني" وبمقارنة ما كان عليه يوحنا بما كان عليه
محمد صلى الله عليه وسلم ، نجد أن الواقع يشهد أن محمداً ص كان هو الأقوى
الذي بشر به يوحنا، يتضح ذلك من خلال الصورة المأساوية التي ترسمها
الأناجيل لنهاية يوحنا حيث يسجن ثم يقطع رأسه ويقدم على طبق، بينما نرى
محمداً صلى الله عليه وسلم يدخل مكة دخول الفاتح العظيم، ويدمر الأصنام،
ويطهر الكعبة، والكفار مستسلمون له ينتظرون حكمه فيهم.
4. أخبر يوحنا عن الغضب القادم أو العذاب القادم على اليهود والكفار
المعاندين للرسل. وهذا العذاب الذي تنبأ عنه، منه ما تحقق بعد ثلاثين سنة
في بني إسرائيل، ومنه ما أعلنه هو وأخوه المسيح عليهما السلام عن قدوم رسول
الله الذي سوف ينتزع جميع الامتيازات من اليهود، ولم يتحقق هذا إلا على يد
محمد صلى الله عليه وسلم الذي دمر حصونهم، وطردهم من ديارهم، ولقد أنذرهم
يوحنا من هذا العذاب الآتي إذا لم يؤمنوا برسل الله الصادقين وعلى رأسهم
محمد صلى الله عليه وسلم – بقوله: (من الذي أخبركم أن تهربوا من الغضب
الآتي).
5. أن هدف محمد صلى الله عليه وسلم هو: إقامة دين الإسلام على الأرض، فقد
اختفت الأوثان والأصنام من أمامه، وانهارت الإمبراطوريات أمام سيفه، وأصبح
المسلمون في ملته متساوين، وتكونت منهم الجماعة المؤمنة، وتحققت بينهم
المساواة إذ لا كهنوت ولا طقوس، وليس هناك مسلم مرتفع، ولا مسلم منخفض، ولا
توجد طبقية أو تمايز يقوم على العنصر والرتبة، فالإسلام هو الدين الوحيد
الذي لا يعترف بأي كائن مهما عظم، ومهما كان مقدسا – كوسيط مطلق بين الله
والبشر.
6. أن أتباع يوحنا كانوا يعرفون كل المعرفة أن عيسى عليه السلام لم يكن
هو الشخص المقصود، وقد اعتنقوا الإسلام عندما جاء محمد صلى الله عليه وسلم.
البشارة الثانية: قال متى في الإصحاح الخامس مخبراً عن المسيح أنه قال:
(الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض، ولا يزول حرف واحد أو نقطة
واحدة من الناموس حتى يكون الكل) قال المهتدي الهاشمي موضحاً هذه البشارة:
(الكل هنا – كما سبقت إليه الإشارة هو القرآن الكريم الذي فيه نبأ السلف،
وأخبار الخلف، فيه قصص من سبق من الأنبياء وابتلاؤهم على أيدي أقوامهم، فيه
هدى للمتقين، ووعيد للكافرين، وتنظيم للحياتين الدنيا والآخرة، روح من رب
العالمين نزل على قلب بشر لم يؤت من قبل فنون الكلام).
وفي هذا النص إشارة إلى وجوب العمل بالتوراة والإنجيل إلى غاية محدودة وهي
مجيء الكل، فإذا جاء الكل – وهو القرآن الكريم – بطل العمل بها، وحان
نسخهما، وأذن الله بزوالهما. والمراد بالزوال هنا زوال الحكم لا زوال
الوجود.
ولعل مقصود عيسى عليه السلام من قوله "الأصغر" أي الأصغر سنا. هذا على فرض صحة نسبة هذا النص إلى عيسى عليه السلام.
البشارة الثالثة: قال متى في الإصحاح الحادي عشر: (وإن أردتم أن تقبلوا
فهذا هو إيلياء المزمع أن يأتي). قال المهتدي النجار بعد هذه النبوة: (أي
إن أردتم أن تتبعوا فاتبعوا أحمد الذي سيبعث، وشدد عليهم في التمسك بهذه
الوصية والمحافظة عليها فقال: "من له أذنان للسمع فليسمع". وهذه البشارة
مماثلة وشاهدة ومصدقة لنبوة ملاخي، وقد سبق إيرادها في هذا البحث تحت
عنوان: البشارة الثانية من بشارات ملاخي.
البشارة الرابعة: روى متى في الإصحاح السابع عشر ذلك الحوار الذي دار بين
المسيح عليه السلام وتلامذته وهو: (قولهم: لماذا يقول الكتبة: إن إيلياء
ينبغي أن يأتي أولا؟. فأجاب وقال لهم: إن إيلياء يأتي أولا، ويرد كل شيء)
وأردف المهتدي النجار هذه البشارة بقوله: (ونجد المحرفين يشيرون بأن هذا
الكلام على يوحنا – أي سيدي يحيى – مع أن سيدنا يحيى ليس له شرع ولا كتاب).
البشارة الخامسة: قال متى في الإصحاح العشرين مخبراً عن المسيح أنه قال:
(أما قرأتم قط في الكتب: أن الحجر الذي رذله البناؤون، هذا صار رأساً
للزاوية، من قبل الرب كانت هذه، وهي عجيبة في أعيننا، من أجل هذا أقول لكم:
إن ملكوت الله تنزع منكم، وتعطي لآخرين، لأمة يصنعون ثمرتها، ومن سقط على
هذا الحجر يترضض، ومن يسقط عليه يطحنه).
أجدني مضطراً أمام هذه البشارة إلى تقسيم الكلام عنها إلى قسمين حسب ما ورد عن هؤلاء المهتدين:
القسم الأول: يختص بالكلام عن الحجر الذي رفضه البناؤون، وهذا الحجر
المشار إليه هو محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو الحجر المتمم للبناء الذي
ابتدأه الأنبياء من آدم حتى المسيح، وبين المسيح عليه السلام ما خص به محمد
صلى الله عليه وسلم ، من النصر والتأييد بقوله: (ومن سقط على هذا الحجر
يترضض ومن يسقط عليه يطحنه). وإلى هذا ذهب كل من المهتدي الشيخ زيادة
والنجار والهاشمي. بينما يرى المهتدي إبراهيم خليل: أن الحجر المشار إليه
هو إسماعيل عليه السلام الذي رفضه قومه. ولكن الذي رفضه قومه، ورفضه اليهود
والنصارى هو محمد صلى الله عليه وسلم.
قوله: (من قبل الرب): أي مرسل من قبل الله حقاً وصدقا.
قوله: (عجيب في أعيننا). هذا القول يطابق قول إشعياء: إن اسمه عجيب. أو أن
تكون بمعنى عجيب، لأنه كريم في طبعه عربي غريب من غير بني إسرائيل.
وإن قيل إن المسيح عني نفسه بهذا المثل فيقال:
1. أنه قال: (في أعيننا) ولم يقل في أعينكم.
2. أن خاتمة البشارة وهي قوله: (من سقط على هذا الحجر يترضض). تفيد جليا
أن هذه العبارة واردة في حق شخص آخر غير المسيح عليه السلام، لأن عيسى عليه
السلام لم يرض غيره، ولم يسحق من سقط عليه.
3. لا يجوز عند علماء اللغة أن يعود اسم الإشارة على المتكلم وهو عيسى،
إذاً فلابد أن يعود على شخص أشار إليه عيسى وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي هذه البشارة تماثل قوله صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إن مثلي ومثل
الأنبياء من قبلي كمثل رجل بني بيتاً فأحسنه وأجمله إلا موضع لبنة من
زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون: هلا وضعت هذه اللبنة؟
فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين).
وهذا القول منه صلى الله عليه وسلم معجزة وأي معجزة، فمن أخبره صلى الله
عليه وسلم بوصفهم له بأنه حجر الزاوية ؟ وهو الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب،
ولم يتتلمذ على يد معلم أو راهب!! ولكنه الوحي الذي لا يأتيه الباطل من بين
يديه ولا من خلفه، والحق الذي لا يختلف في كل عصر ومصر، فلا عجب أن تماثلت
أقوالهم، واتفقت أمثالهم، أليس الجميع يخرج من مشكاة واحدة ؟؟!!.
القسم الثاني: يختص بالكلام عن نزع ملكوت الله من بني إسرائيل، ووضعه في أمة أخرى:
والحديث عن ملكوت الله يتطلب الحديث عن حقيقته، وصفات أتباعه، وملكوت الله
في تفسير الكنائس، وبيان أن النصرانية ليست ضمن ملكوت الله، وأن الملكوت
نزع من بني إسرائيل وأعطي لأمة أخرى، وهذه الأمة هي الأمة الإسلامية.
بشارات يوحنا:
البشارة الأولى: لما ابتدأ يوحنا يعمد الناس في نهر الأردن، وكان ذلك في
زمن المسيح عليه السلام، تصدى له اليهود – المكتوب عندهم في التوراة أن
المسيح آت وسيأتي بعده نبي – وسألوه سؤالا كما جاء في الإصحاح الأول: (هل
أنت المسيح ؟ هل أنت إيلياء ؟، هل أنت النبي؟ وعندما أجابهم بالنفي قالوا
إذا لم تكن المسيح ولا إيلياء ولا ذلك النبي المنتظر، إذاً فلماذا تعمد ؟؟)
قال المهتدي الهاشمي بعد هذه البشارة: (من سؤال اليهود ليوحنا نستطيع أن
نستنتج أن هناك نبياً بشرت به كتبهم، حيث أن السؤال كان في عهد السيد
المسيح، وأن إيلياء كان نبيا من أنبياء بني إسرائيل جاء بعد موسى وقبل
المسيح). ويطرح المهتدي عبد الأحد داود عدة تساؤلات ملزمة حول هذا النص
وهي:
من يعني أولئك الأحبار اليهود واللاويون بقولهم: ذلك النبي؟ وإذا كنتم
تدعون معرفتكم مقصد رجال الدين العبرانيين، فهل يعرف باباواتكم وبطارقتكم
من هو ذلك النبي؟ وإذا كانوا لا يعرفون فما الفائدة الدنيوية من هذه
الأناجيل المشكوك في صحتها؟ وإذا كان الأمر على العكس، وكنتم تعرفون من هو
ذلك النبي فلماذا تبقون صامتين ؟؟!.
ويستنتج المهتدي الشيخ زيادة من هذه البشارة: أن اليهود منذ زمن موسى إلى
زمن مجيء المسيح عليهما السلام كان يتداول بينهم – نقلا عن آبائهم وأجدادهم
– أن الله يرسل نبيا. وهم بانتظار ثلاثة أفراد عظام هم: إيلياء والمسيح
والنبي فحيث جاء إيلياء والمسيح لم يبق إلا "النبي" الذي ينتظرونه، وقد ورد
في هذا النص بعد المسيح فتعين أن هذا النبي هو محمد صلى الله عليه وسلم ،
لأنه قد جاء بعد المسيح عليهما الصلاة والسلام.
وهذه البشارة تفند ادعاء اليهود أن بشارة موسى عن نبي يقيمه الله لهم. دالة
على يوشع بن نون، لأنه لو كان المقصود لما ظل اليهود إلى زمن المسيح
يسألونه عن ذلك النبي. وتفند – أيضاً – ادعاء النصارى بأن بشارة موسى
السابقة مقولة على المسيح عليهما السلام، لأن علماء اليهود قالوا ليوحنا:
(إن كنت لست المسيح ولا إيلياء ولا النبي وهذا يدل على أن هذا النبي غير
المسيح عليه السلام.
البشارة الثانية: قال يوحنا في الفصل الخامس عشر من إنجيله إن المسيح
عليه السلام قال: (إن الفارقليط الذي يرسله أبي باسمي يعلمكم كل شيء) وقال –
أيضا – في الفصل السادس عشر: (إن الفارقليط لن يجيئكم ما لم أذهب، فإذا
جاء وبخ العالم على الخطيئة، ولا يقول من تلقاء نفسه شيئاً، لكنه يسوسكم
بالحق كله، ويخبركم بالحوادث والغيوب) وقال – أيضا – : (إني سائل أبي أن
يرسل إليكم فارقليطاً آخر يكون معكم إلى الأبد) ويرى المهتدي عبد الأحد
داود أن النص الأخير لا يتضح المعنى المراد منه إلا بإعادة الكلمات
المسروقة أو المحرفة فتكون الصيغة الصحيحة كالتالي: (وسوف أذهب إلى الأب،
وسيرسل لكم رسولاً سيكون اسمه "البرقليطوس"، لكي يبقى معكم إلى الأبد)
والكلمات التي أضافها هي ما تحتها خط.
هذه البشارة تكاد أن تكون محل إجماع من هؤلاء المهتدين، وسيكون الحديث عنها من جانبين:
الجانب الأول: بشارة المسيح عليه السلام بخاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم وذلك من خلال النقاط التالية:
1. أن هذا النبي الذي بشر به المسيح عليه السلام علّم الناس مالم يعلموه
من قبل، ولم يكن في تلاميذ المسيح ومن بعدهم من علّم الناس شيئاً غير الذي
كان علمهم المسيح.
2. تضمن النص أن هذا الشخص المبشر به لا يتكلم من تلقاء نفسه، وأنه يخبر
بالحوادث والغيوب، ولقد كان محمد صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى إن
هو إلا وحي يوحى، وقد تواتر عنه إخباره بالحوادث المقبلة والغيوب التي
تحققت في حياته وبعد مماته. وتتفق هذه البشارة مع بشارة موسى عن هذا النبي
المنتظر عندما أخبر أن الله قال: (وأجعل كلامي في فيه). وقد سبق الحديث عن
هذه البشارة ضمن بشارات العهد القديم.
3. أن هذا النبي المنتظر بكت العالم على الخطيئة، ولا خطيئة أعظم من
الشرك، ولم يقتصر عمل محمد صلى الله عليه وسلم على اقتلاع الشرك من جزيرة
العرب، وبعث رسله وكتبه إلى ما جاوره من الدول والإمبراطوريات يدعوهم إلى
عبادة الله وحده، بل لما لم تقبل دعوته استل سيفه مؤذنا بإعلان الحرب على
الشرك مهما كان موقعه.
4. أن الشخص المبشر به يؤنب العالم. ولقد اعتقد اليهود أنهم صلبوا المسيح
عليه السلام وقتلوه. واعتقد النصارى أن المسيح قد صلب وأنه الله أو ابن
الله. ولم يزل العالم يعتقد هذا الاعتقاد حتى جاء محمد بن عبد الله صلوات
الله وسلامه عليه وجلّى كل الحقيقة عن المسيح من أنه عبد الله ورسوله، وأنه
لم يصلب ولم يقتل، بل رفع إلى السماء.
5. في هذا النص صرح المسيح عليه السلام أن الشخص المبشر به هو "روح
الحقيقة" ومحمد صلى الله عليه وسلم هو الذي أظهر كل الحقيقة عن الله وعن
وحدانيته ورسله وكتبه ودينه، وصحح كثيراً من الافتراءات والأكاذيب التي
كانت مدونة ومعتقداً بها، فهو الذي وبخ النصارى على اعتقادهم في الثالوث،
وادعائهم أن المسيح هو ابن الله، وكشف مفتريات اليهود والنصارى ضد أنبياء
الله ورسله، وطهر ساحتهم من الدنس والعيب الذي ألحقه بهم اليهود.
6. ذكر المهتدي الترجمان في سبب إسلامه أن أحبار النصارى كان لهم مجلس
يجتمعون فيه، ويتذاكرون فيه أنماطاً من المسائل، فاختلفوا يوماً حول النبي
الذي يأتي بعد المسيح والمسمى في الإنجيل "البارقليط" وانفض المجلس في ذلك
اليوم ولم يصلوا إلى حقيقة هذا اللفظ، وقد تخلف عنهم في ذلك اليوم أكبر
علمائهم، فلما رجع الترجمان إليه أخبره الخبر، وطلب الترجمان من هذا العالم
أن يبين له الحقيقة فأخبره: أن "البارقليط" هو اسم من أسماء نبي المسلمين
محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.
7. قال المهتدي الهاشمي: (إنه جاء في الإنجيل المكتوب باللغة القبطية
الذي كتبه أحد البطاركة في سنة 506م ما معناه: الآتي بعدي يسمى: الفارقليط
بندكراطور. أي الروح المنشق اسمه من اسم الحمد، سيبعث الحياة في أمه ليست
لها من الحياة نصيب إلا الضلال في برية فاران كجحاش الأتن. وذكر أن هذا
الإنجيل منزوع الغلاف، وذكر كاتبه في ديباجته أنه نقله من أصول الإنجيل
الحقيقي.
8. استخرج هؤلاء المهتدون تطابق كلمة "البارقليط" مع اسم محمد صلى الله عليه وسلم وصفته وبيان هذا التطابق كما يلي:
أ ) هذا الاسم "بارقليط" يوناني. وتفسيره باللغة العربية أحمد أو محمد أو
محمود. وقال المهتدي عبد الأحد داود: ومن المدهش أن الاسم الفريد الذي لم
يعط لأحد من قبل كان محجوزاً بصورة معجزة لأشهر رسل الله وأجدرهم بالثناء،
ونحن لا نجد أبداً أي يوناني كان يحمل اسم "برقليطس" ولا أي عربي كان يحمل
اسم أحمد.
ب) قال المهتدي عبد الأحد داود موضحاً هذا التطابق: (إن التنزيل القرآني
القائل بأن عيسى ابن مريم أعلن لبني إسرائيل أنه كان "مبشراً برسول يأتي من
بعدي اسمه أحمد" – واحد من أقوى البراهين على أن محمداً كان حقيقة نبياً،
وأن القرآن تنزيل إلهي فعلاً، إذ لم يكن في وسعه أبداً أن يعرف أن كلمة
البارقليط كانت تعني أحمد إلا من خلال الوحي والتنزيل الإلهي، وحجة القرآن
قاطعة ونهائية، لأن الدلالة الحرفية للاسم اليوناني تعادل بالدقة ودون شك
كلمتي "أحمد" و "محمد" صلى الله عليه وسلم.
ج ) أن اسم البارقليط لفظة يونانية يجتمع من معانيها في القواميس المعزي،
والناصر، والمنذر، والداعي. وإذا ترجمت حرفاً بحرف إلى اللغة العربية صارت
بمعنى "الداعي" وهو من أسمائه صلى الله عليه وسلم ، وقد وصف في القرآن
الكريم بمثل ذلك في قوله تعالى: (يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً
ونذيراً. وداعياً إلى الله بإذنه) وقد فهم أوائل النصارى أن هذه اللفظة
إنما تعني الرسول محمد صلى الله عليه وسلم .
البشارة الثالثة: قال يوحنا في إنجيله الإصحاح السادس عشر مخبراً أن
المسيح قال: (إن أموراً كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا تستطيعون أن
تحتملوا الآن، وأما أمتي جاء ذاك روح الحق فهو سيرشدكم إلى جميع الحق، لأنه
لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية، ذاك
يمجدني). قال المهتدي النجار: (وهذه البشارة في معنى قوله تعالى: (وما ينطق
عن الهوى. إن هو إلا وحي يوحى). وقال المهتدي الهاشمي معلقاً على هذه
البشارة: (والمسيح يبصر أمته بأن لديه أموراً كثيرة تفوق طاقة احتمالهم،
وأنه سيأتي الوقت المناسب لمجيء الرسول الذي يعنيه بالروح الحق. فتكون
العقول قد تفتحت، والقلوب قد ذهب عنها رينها، والنفوس قد ألهمت بعد فجورها
تقواها، في هذه اللحظة – فقد – يكون الناس قد استعدت إفهامهم، واتسعت
مداركهم، لاحتمال كل ما يلقى إليهم على لسان هذا النبي الذي لا يتكلم من
نفسه، وإنما من وحي يوحى إليه من ربه بالقرآن).
ويذكر المسيح عليه السلام بعض أوصاف هذا الرسول الخاتم التي تساعد على
تمييز شخصيته منها قوله: (ذاك يمجدني). فمن صفات هذا الرسول أنه يمجد
المسيح، ولم يأت أحد بعد المسيح ويمنحه من التمجيد والثناء ما يستحقه،
ويرفع عنه وعن أمه افتراءات اليهود، ويضعه في المنزلة التي وضعه الله فيها –
وهي العبودية والرسالة – سوى محمد صلى الله عليه وسلم. ومن صفات هذا
الرسول أنه سيرشد الخلق إلى أمور وحقائق لم يبلغها المسيح، وذلك في قوله:
(ويخبركم بأمور آتية).
بشارة سفر أعمال الرسل:
قال المهتدي الطبري أنه جاء في كتاب فراكسيس قول رئيس الحواريين: (إنه قد
حان أن يبتدأ من بيت الله) قال المهتدي الطبري: (وتفسير ذلك أن بيت الله
الذي ذكره الحواري هو مكة، وفيها كان ابتداء الحكم الجديد لا من غيرها. فإن
قال قائل: إنه عني به حكم اليهود. فقد كان أخبرهم المسيح أنه لا يترك في
بيت المقدس حجر على حجر حتى ينسف ويبقى على الخراب إلى يوم القيامة، فقد
وضح أن الحكم الجديد الذي ذكره الحواري هو دين الإسلام وحكمه).
بشارة بولس في رسالته إلى أهل غلاطية:
قال فولس في رسالته إلى أهل غلاطية: (إنه كان لإبراهيم ابنان أحدهما من أمة
والآخر من حرة، وقد كان مولد ابنه الذي من الأمة كمولد سائر البشر، فأما
مولد الذي من الحرة فإنه ولد بالعدة من الله.
فهما مثالان مشبهان بالفرضين والناموسين، فأما هاجر فإنها تشبه بجبل سينا
الذي في بلاد أرابيا الذي هو نظير أوراشلم هذه، فأما أوراشلم التي في
السماء فهي نظير امرأته الحرة) قال المهتدي الطبري: (فقد ثبت فولس في قوله
هذا معاني جمة:
أولهما: أن إسماعيل وهاجر قد كانا استوطنا بلاد العرب، وهي التي سماها بلاد أرابيا.
الثاني: أن جبل سيناء الذي بالشام يتصل ببلاد البوادي بقوله: إن هاجر تشبه
بطور سينا الذي ببلاد أرابيا. وسينا هو الذي ذكرته التوارة في صدر هذه
النبوات في قولها: (إن الرب جاء من سينا، وطلع لها من ساعير، وظهر من جبل
فاران). فشهد فولس هذا بأن الذي قالت عنه التوراة: إنه جاء من سينا: هو
النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو الذي ظهر في بلاد أرابيا. وأين يكون من
الإبانة والإيضاح أكثر من تسمية بلاد أرابيا التي عني بها بلاد العرب.
الثالث: أن بيت المقدس هو نظير مكة.
الرابع: أن هذا الناموس الثاني والفريضة الثانية وهي "الشريعة الإسلامية"
سماوية لا شك فيها، فقد سماهما باسم واحد، ولم يفرق بينهما بمعنى من
المعاني.
فأما تقديمه الحرة، وقوله: (ابن الأمة لم يولد بالعدة) فذلك منه بالعصبية
والميل، وفيما استشهدت به من قوارع التوراة على إسماعيل ما فيه كفاية
وبرهان على أنه – أيضاً – ولد ليس بعده واحدة بل بعدات كثيرة.
الخــاتمـة
ليست هذه البشارات التي أوردتها هي كل ما في التوراة والإنجيل، وليست –
أيضاً – هي كل ما استطاع هؤلاء المهتدون استنباطه منهما، لأنهم أوردوا
أمثالاً وصوراً منها للتدليل على نبوته صلى الله عليه وسلم ، ويؤكد ذلك قول
المهتدي الترجمان: (ولو ذكرت جميع ما في كتب الأنبياء المتقدمين من ذلك
–أي البشارات- لطال الكتاب، وأنا أرجو أن أجمع لبشارات جميع الأنبياء به
كتاباً مجرداً لذلك). وقال المهتدي النجار بعد ذكره لعدد من البشارات:
(وهذا قليل من كثير).
وقد استخلص المهتدي إبراهيم خليل خلاصة هذه البشارات بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فوجد أنها تؤكد جانبين هما:
1. أنه الرسول الخاتم ولا نبي بعده.
2. أنه رسول الله للعالمين كافة. وأيد هذين الجانبين أو الوصفين بعشرين سبباً استخرجها من نصوص العهد القديم والجديد.
وقال المهتدي الطبري بعد فراغه من الاستدلال بالبشارات: (ولقد صرح عدة منهم
– أي من أنبياء بني إسرائيل – باسم النبي صلى الله عليه وسلم ، ووصفوه
أيضاً وسيافيه ورماته، وسير المنايا وسباع الطير أمام عساكره ... فهذه – أي
البشارات – كلها محققة لدينه، ومفخمة لشأنه، ومصدقة لما أدت دعاته عنه).
هذه البشارات التي استعرضت جانبا منها تبين اتفاق كثير منها في ذكر
اسمه صلى الله عليه وسلم ، وصفته، وصفة جهاده وجنوده، وبلده وأمته ولغته
... فماذا يعني هذا التوافق والتعاضد ؟ إن هذا التعاضد يعني أموراً كثيرة
لعل من أبرزها ما يلي:
1. أن هذه الرسالات كلها من عند الله، وهذه التحريف الذي طرأ عليها
وأثبته القرآن، ولا ننفيه عنها – لم يستطع أن يخفي المعنى الذي ورد أصلا في
اللفظ المنزل.
2. أن كتب الله ورسله يصدق بعضها بعضاً، ويؤمن بعضها ببعض، فالسابق يبشر
باللاحق، واللاحق يؤمن بالسابق، فإبراهيم آمن بمن سبقه من رسل، وسأل الله
أن يبعث في ذريته رسولاً يزكيهم يعلمهم الكتاب والحكمة، وموسى آمن بإبراهيم
وبمن سبقه وبشر بعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وعيسى آمن بمن سبقه
وبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم.
3. أن ما ورد من الحق فلا يخرج عن الصدق، ولا يناقض بعضه بعضاً، وأن ما ورد من الباطل فلا يكون حقاً أبداً.
4. يتأكد من هذه النبوات شيء واحد، وهو أن هذا النبي الذي بشرت به الأنبياء معروف لديهم كافة.
5. أن ظهور الرسالة المحمدية والملة الإسلامية على يد خاتم الرسل يعتبر
آية لنبوتهم، إذ تحقق صدق ما أخبروا به، وظهور ما بشروا به، ولو لم يظهر
لبطلت النبوات فيه وفي إسماعيل عليهما السلام.
6. توافق هذه النبوات في حق محمد صلى الله عليه وسلم يدل على فضيلته
وانفراده بهذا الشرف الرفيع بين سائر الأنبياء صلوات عليهم وسلامه.
7. توافق هذه النصوص مؤيد لما أخبر به صلى الله عليه وسلم في القرآن والسنة من أنه مذكور في الكتب المتقدمة.
8. نستنتج من هذا التوافق عناية الله بهذه الأمة، ورعايته لها، وحفظه
لدينها، فمن حفظه لدينها حفظ هذه الأدلة الدالة عليه والمبشرة – لا لحاجة
هذا الدين إليها، وإنما لإقامة الحجة على أهلها.
9. أن البشر على عتوهم وتمردهم لوحي الشيطان في محاولة طمس نور الله
وإضلال عباده – لا يستطيعون أن يطفئوا نور الله، يقول الحق تبارك وتعالى
بعد ذكره بشارة المسيح عليه السلام بهذا الرسول صلى الله عليه وسلم :
(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون).
10. رأينا في البشارات السابقة كيف أثبت هؤلاء المهتدون اسم النبي
محمد صلى الله عليه وسلم وصفته في التوراة والإنجيل، ورأينا كذلك كيف
استبدلت هذه الأسماء وغيرت الأوصاف في الطبعات الحديثة، كفراً وحسداً
وحقداً.