علو الهمة في العبادة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وخاتم النبيين، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد: فلِمَ نعيش أيها الإخوة؟ و لِمَ نحيا؟ وما هدفنا في هذه الدنيا؟ أو لنأكل ونشرب، ثم نموت ويظن الواحد منا أنه لا حساب ولا عذاب؟ ما هدفك في هذه الحياة؟ تستيقظ في الصباح وتنام في الليل، لم تستيقظ؟ ولم تنام؟ علام تخرج من البيت وترجع إليه؟ هلا جعلت لنفسك هماً في هذه الدنيا؟! وهلا كان هذا الهم عالياً؟ كان المصطفى عليه الصلاة والسلام يعلم أصحابه الهمة العالية، فقال: (إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس الأعلى -لا تطلب إلا بالفردوس- فإنه أعلى الجنة، ووسط الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) من منا لا يريد هذا؟! ويحضر له رجل وضوءه وبعد أن ينتهي من الوضوء قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (سلني) ما الذي تطلبه؟ الآن لو قيل لك: أي شيءٍ تريده في الدنيا يأتيك، منا من يطلب مالاً، ومنا زوجةً، ومنا ذهباً وفضة، ومنا منصباً عالياً، أما هذا الرجل فطلب أغلى ما يستطيع أن يطلبه، تقول لي: الجنة، أقول لك: أعظم مكان في الجنة، تقول لي: هو الفردوس، أقول لك: أعظم مكان في الفردوس، قال: (أسألك مرافقتك في الجنة). وهل هناك همةٌ أعلى من هذه الهمة؟ ماذا نطلب أكثر من هذا؟ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ [آل عمران:185] وكأن الأمر صعب، انظر! إلى الآية القرآنية (زحزح) كأن الأمر فيه شيء من الصعوبة، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ [آل عمران:185] نجاة من النار ودخول الجنة، وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185] وهذا هو الفوز الحقيقي.
علو همة الرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة
ولهذا كان الأولون وعلى رأسهم محمد عليه الصلاة والسلام يقومون الليل حتى تتشقق القدم، تخيل! لو قمت حتى تعبت القدمان قد تنام، ولو فترت القدم قد تتوقف عن الصلاة، لكن من منا يستطيع أن يصلي حتى تتفطر القدم؟! من يقدر على هذا إلا أفضل الخلق عليه الصلاة والسلام؟ همةٌ أعلى من الجبال، حتى قال عنهم القائل:
كنا جبالاً فوق الجبـال وربما سرنا على موج البحار بحارا
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
علو همة السلف في العبادة
هؤلاء هم أهل الهمم العالية، واسمع وتدبر ثم حاسب نفسك، أين أنت من أولئك؟ وأين نحن من هؤلاء؟ هذا سفيان الثوري إذا أذن الصبح نام على الأرض ورجله على الحائط، تعرف لمه؟ حتى يرجع الدم إلى رأسه من شدة قيامه في الليل، ومن طول قيامه، أي همةٍ هذه؟ وأي نفسٍ تلك التي يقوم بها الليل حتى إن الدم ما يأتي إلى الرأس من شدة القيام؟ تقول لي: ألا ينام؟ أقول لك: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ [السجدة:16] كلما نام يتجافى الجنب عن المضجع، ولا تهنأ نفسه بالنوم. يقولون عن سعيد بن جبير : ردد آية من الليل إلى الصباح، فكان يبكي ويرددها، وأي آية تلك؟ وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] يوم القيامة ينفصل المجرمون المنافقون عن المخلصين الصادقين، ويتميزون، فهو يبكي ويردد الآية حتى الصباح. بل يقولون عن ثابت البناني أحد الصالحين العباد، أنه كان يقول: جاهدت نفسي بالصلاة عشرين سنة -انظر الهمة العالية- أجاهد نفسي بالصلاة وأقاوم النفس حتى أصلي بالليل، ثم تنعمت بها عشرين سنة أخرى، هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ [الرحمن:60] تعب عشرين سنة، وتنعم عشرين سنة من الله جل وعلا. وكان إذا أصبح الصباح يعصر رجله؛ لأنها تخدرت من شدة القيام، وهو يقول: مضى العابدون، وقطع بي وا لهفاه! وا لهفاه! مضى العابدون أي: سبقني العابدون وهو يقوم الليل أكثره، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]. الإمام أحمد بن حنبل لما أدخل السجن، أمضى ثمانية وعشرين شهراً وهو في السجن وهو شيخ كبير، أول ليلة في السجن ماذا صنع؟ تخيل! مظلوم؛ لأنه ينصر عقيدة أهل السنة دخل السجن، أول ليلة وكان البرد قارساً، وسجنهم ليس كسجننا، بل كان مظلماً وهو لوحده، فأخذ يتحسس بيده يبحث عن ماء، فوقعت يده على ماءٍ بارد جداً، فأخذ يتوضأ وصلى حتى الصباح. كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]. جاء أحد طلبة العلم لينام عند الإمام أحمد بن حنبل ، فوضع له الإمام أحمد إناء فيه ماء ليتوضأ قبل النوم، وفي الصباح جاء الإمام أحمد فرأى الإناء ما تغير، الماء هو الماء، فقال له: أما توضأت؟ قال: لا. قال: أما صليت شيئاً من الليل؟ قال: لا، أنا مسافر. فقال له الإمام أحمد : صاحب حديث -يعني طالب علم- لا يكون له وردٌ من الليل! فقال: أنا مسافر يا إمام! قال: وإن كنت مسافراً -أي حتى ولو كنت مسافراً ليس لك عذر- قال: وإن كنت مسافراً، حج مسروق فما نام إلا وهو ساجد. يعني من شدة التعب. أي همةٍ هذه؟ أي همةٍ تلك؟ الواحد منهم يقول: حتى وإن كنت مسافراً ليس لك عذر في ترك النافلة. يحكي شخص عن أبي حنيفة فيقول: فلما هدأ الناس خرج إلى المسجد، يقول: فتبعته فدخل المسجد، فأخذ يصلي حتى طلوع الفجر. يقول: تابعته ثلاث ليال على هذه الحال. أبو حنيفة يقرأ آية فما استطاع أن يكمل الذي بعدها، فاستمر يبكي ويرددها حتى أصبح الصباح، أي آية تلك؟ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27] همةً وأي همة!!
المصدر: Here
وللحديث بقية