المؤيدون للتفسير بمكتشفات العلم التجريبي ومؤلفاتهم: حظي هذا النوع من التفسير بمعناه الواسع بمؤيدين له ومدافعين عنه ومكثرين منه. قدماء ومحدثين وسأجمل القائلين بهذا بوجه عام دون تحديد دقيق لرأي كل واحد منهم إِذا يجمعهم التوجه، وإِن اختلفت درجتهم فيه، وذلك تجنبًا للإِطالة المملة وتشعيب الأقوال تكثّرًا. فمنهم:
1 - الإِمام الغزالي في: إِحياء علوم الدين، وجواهر القرآن.
2 - الفخر الرازي (ت 606 هـ) في: تفسيره مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير.
3 - بدر الدين الزركشي (ت 794 هـ) في: البرهان في علوم القرآن.
4 - جلال الدين السيوطي (ت 911 هـ) في: الإِتقان في علوم القرآن والإِكليل في استنباط التنزيل.
5 - ابن أبي الفضل المرسي فيما نقله عنه السيوطي في الإِتقان.
6 - البيضاوي (ت 691 هـ) في: تفسيره أنوار التنزيل وأسرار التأويل.
7 - نظام الدين النيسابوري (ت 728 هـ) في: غرائب القرآن ورغائب الفرقان[1].
8 - محمود شكري الألوسي (ت 1270 هـ) في: روح المعاني[2].
9 - طنطاوي جوهر (ت 1358 هـ) في: الجواهر في تفسير القرآن الكريم، والقرآن والعلوم العصرية.
10 - محمد أحمد الإِسكندراني في "كشف الأسرار النورانية القرآنية فيما يتعلق بالأجرام السماوية والأرضية والحيوانات والنباتات والجواهر المعدنية"[3]. و "تبيان الأسرار الربانية في النباتات والمعادن والخواص الحيوانية "[4].
11 - عبد الله باشا فكري. في رسالته في مقارنة بعض مباحث البيئة بالوارد في النصوص الشرعية [5].
12 - إِبراهيم فصيح - الشهير بحيدري زاده البغدادي. في رسالته في تطبيق الهيئة الجديدة الآثار على بعض الآيات الشريفة وبعض الأخبار.
13 - أحمد مختار باشا الغازي[6].
14 - محمد توفيق صدقي. في محاضراته في سنن الكائنات.
15 - عبد الرحمن الكواكبي. في: طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد.
16 - محمد فريد وجدي. في: الإِسلام دين الهداية والإِصلاح.
17 - مصطفى صادق الرافعي. في: إِعجاز القرآن والبلاغة النبوية.
18 - جمال الدين القاسمي. في: محاسن التأويل.
19 - محمد عبده. في تفسير جزء عم. وتفسير المنار.
20 - عبد الحميد بن باديس. في: مجالس التذكير من كلام الحكم الخبير.
21 - د. عبد العزيز إِسماعيل. في: الإِسلام والطب الحديث.
22 - عبد الرزاق نوفل. في: القرآن والعلم الحديث. وغيره من مؤلفاته.
23 - محمد أحمد الغمراوي. في: الإِسلام في عصر العلم.
24 - حنفي أحمد. في: التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن.
25 - محمود أبو الفيض المنوفي. في: القرآن والعلوم الحديثة.
26 - الشيخ محمد متولي الشعراوي. في: معجزة القرآن.
27 - د. محمد عبد الله دراز. في: مدخل إِلى القرآن الكريم.
28 - جمال الدين عيّاد. في: بحوث في تفسير القرآن، وقدرة الله مظاهرها من العلم الحديث.
29 - د. مصطفى مسلم في: مباحث في إِعجاز القرآن.
30 - عبد العزيز بن خلف آل خلف في: دليل المستفيد في كل مستحدث جديد.
31 - د. منصور حسب النبي. في: الكون والإِعجاز العلمي للقرآن.
32 - د. البشير التركي في: لله العلم.
33 - محمد عبد الحليم أبو زيد في: مجلة الأزهر (المجلد 18 / 1560).
34 - د. عبد الله شحاته في: تفسير الآيات الكونية.
35 - أحمد جبالية في: القرآن وعلم الفلك.
36 - د. محمود ناظم نسيمي في: مع الطب في القرآن الكريم.
37 - محمد وفاء الأميري في: آيات الله.
38 - د. عبد العليم عبد الرحمن خضر في: الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن، و: المنهج الإِيماني للدراسات الكونية، وهندسة النظام الكوني في القرآن.
39 - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: في التحرير والتنوير.
40 - د. عبد الغني عبود في: الإِسلام والكون.
41 - الشيخ حسن البنا. في: مقدمة في التفسير مع تفسير الفاتحة وأوائل سورة البقرة.
42 - د. فهد بن عبد الرحمن الرومي. في: اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر الهجري.
43 - الشيخ عبد القاهر داود العاني في: دراسات في علوم القرآن.
44 - محمد صادق عرجون: في: نحو منهج لتفسير القرآن.
45 - محمد أبو زهرة. في: المعجزة الكبرى، القرآن.
46 - د. محمد سعيد رمضان البوطي. في: مقال في مجلة العربي عدد / 246 عام 1399 هـ.
47 - عبد الله بن عبد الله الأهدل. في: التفسير العلمي للقرآن الكريم. دراسة وتقويم[7].
48 - هند شلبي. في: التفسير العلمي للقرآن بين النظريات والتطبيق.
49 - نعمت صدقي. في: معجزة القرآن.
ومنهم الشيخ عبد المجيد الزنداني في مؤلفاته ومحاضراته، والدكتور محمد علي البار في أبحاثه ودراساته.
فهذا استعراض بإِيجاز لعدد كثير من القائلين بالتفسير العلمي يظهر منه انتشار هذا القول وشيوعه على امتداد في الزمان واتساع في المكان فهم مختلفو الديار متعددو المذاهب والمشارب متنوعو التخصصات والثقافات.
واكتفيت بتحديد مؤلفاتهم التي تحمل أفكارهم على وجه الدقة والتفصيل تجنبًا للإِطالة بنقل عباراتهم المحدِّدة لأرائهم، والتي قد تكون بالصفحات[8].
على أنه يتعين التنبيه إِلى أنهم ليسوا على درجة واحدة في قبولهم للتفسير العلمي، فمنهم من يؤيده بإِطلاق واندفاع.
ومنهم من له شروط وقيود فيقبله بحدوده ويقصره على الحقائق العلمية اليقينية القطعية دون النظريات الافتراضية. فالمتوسطون في الرأي والمتحفظون في الحكم هم أقرب إِلى أن يعدوا من المؤيدين منهم إِلى المعارضين لأنهم في المحصلة النهائية يقبلونه بضوابط وشرائط.
أسباب قبول هذا التفسير:
تختلف أدلة ومسببات قبول تفسير القرآن الكريم بمكتشفات العلم التجريبي - أو ما اشتهر بالتفسير العلمي - عند القائلين به وسأحاول في هذه الأسطر عرض أشهر وأظهر ما تبين لي منها.
والآيات والآثار التي سأوردها هي من استدلالات المتقدمين. والتعليلات من آراء المتأخرين. فمن ذلك:
1 - الاستدلال بظاهر عموم بعض الآيات ك قَوْله تَعَالَى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}[9].
وقَوْله تَعَالَى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}[10].
فيفسرون الكتاب بالقرآن، ويحملون الآية على ظاهر عمومها، وقد ساق الفخر الرازي بعض الاستدلالات للرد على منتقديه في الإِكثار من علم البيئة والنجوم بما يصلح أن يكون من أدلة المؤيدين لهذا النوع من التفسير منها:
1 - قَوْله تَعَالَى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ}[11] حيث حث على التأمل في بنائها وتزيينها.
2 - قَوْله تَعَالَى: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}[12].
إِذ بين أن عجائب الخلق في أجرام السماوات والأرض أكثر وأعظم وأكمل مما في أبدان الناس.
3 - قَوْله تَعَالَى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}[13].
فقد مدح المتفكرين في خلق السماوات والأرض، ولو كان ذلك ممنوعًا منه لما فعل[14].
4 - قَوْله تَعَالَى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}[15]
فقوله سنريهم يدل على الاستقبال ومنع هذا النوع من التفسير يؤدي إِلى قصر الإِعجاز القرآني على عصر النبوة فقط. وهذا يعني أن يستقبل القرآن القرون الأخرى دون إِعجاز أو عطاء. وهذا ممنوع[16].
2 - الاستدلال بعموم بعض الأحاديث والآثار من ذلك:
(أ) ما أخرجه الترمذي وغيره "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَتَكُونُ فِتَنٌ. قِيلَ: وَمَا الْمَخْرَجُ مِنْهَا ؟ قَالَ: كِتَابُ اللَّهِ فِيهِ نَبَأُ مَا قَبْلَكُمْ وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ"[17] الحديث.
(ب) ما أخرجه أبو الشيخ عن أبي هريرة أنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "إِنَّ اللَّهَ لَوْ أَغْفَلَ شَيْئًا لأَغْفَلَ الذَّرَّةَ وَالْخَرْدَلَةَ وَالْبَعُوضَةَ"[18].
(ج) ما أخرجه سعيد بن منصور عن ابن مسعود أنه قال: (من أراد العلم فعليه بالقرآن. فإِن فيه خبر الأولين والآخرين)[19].
3 - أن الله سبحانه وتعالى: ملأ كتابه من الاستدلال على العلم والقدرة والحكمة بأحوال السماوات والأرض وتعاقب الليل والنهار، وكيفية أحوال الضياء والظلام وأحوال الشمس والقمر والنجوم وذكر هذه الأمور في أكثر السور وكررها وأعادها مرة بعد أخرى. فلو لم يكن البحث عنها والتأمل في أحوالهم جائزًا لما ملأ الله كتابه منها.[20]
4 - إِن العلم الحديث ضروري لفهم بعض معاني القرآن الكريم، وليس هناك ما يمنع من أن يكون فهم بعض الآيات فهمًا دقيقًا متوقفًا على تقدم بعض العلوم. يقول مصطفى صادق الرافعي في إِعجاز القرآن "إِن في هذه العلوم الحديثة على اختلافها لعونًا على تفسير بعض معاني القرآن والكشف عن حقائقه"[21].
فتكون الحقيقة العلمية من مرجحات المعنى في الآية القرآنية[22] فإِذا احتملت الآية أكثر من معنى يتعين أن يؤخذ بما يرجحه العلم وتؤكده حقائقه ولا مسوغ البتة في تنكب ذلك وتجنبه، وهذا يعني أن الجهل بحقائق العلوم مدعاة إِلى الخطأ في التفسير.
يؤيد هذا التميز الذي تستقل به المفردة القرآنية، وتنفرد به عن غيرها في سعة معناها ودقة التعبير بها وتخير لفظها مما يستحيل معه أن تؤدي أي كلمة أخرى قريبة منها أو رديفة لها كامل معناها بإِيحاءاته وظلاله ودقائق معانيه، ومن هنا نجد أن غالب القائلين بوجود الترادف في اللغة يمنعونه في القرآن الكريم.
5 - تحقق فوائد كثيرة كبيرة من هذا النوع من التفسير مثل:
(أ) إِدراك وجوه جديدة للإِعجاز في القرآن الكريم، بإِثبات التوافق والتطابق بين حقائق القرآن الكريم القطعية النهائية وحقائق العلم القطعية اليقينية.
(ب) استمالة غير المسلمين إِلى الإِسلام وإِقناعهم به، وتعرّفهم عليه من هذا الطريق ببيان إِعجاز القرآن العلمي لهم وإِقامة الحجة عليهم بذلك.
ج - ما في هذا المسلك من الحث على الالتفات لأسرار هذا الكون والانتفاع بها بما ينفع الناس.
د - امتلاء النفوس إِيمانًا بعظمة الله جل وعلا وقدرته وعظيم سلطانه بعد الوقوف على بعض أسرار هذا الكون التي كشفها العلم وأشار إِليها القرآن الكريم.
هـ - إِظهار التوافق التام بين دين الإِسلام وحقائق العلم ودفع المزاعم الباطلة الجاهلة القائلة بأن هناك عداوة وصراعًا بين العلم والدين. فهذا الكون خلق الله. وهذا القرآن كلام الله.[23]
أضف إِلى كل هذا عدم الاقتناع بأسباب المنع من هذا التوجه في التفسير التي سبق ذكرها.
نماذج من التفسير بمكتشفات العلم التجريبي:
الأمثلة في هذا السياق كثيرة وسأختار منها ما هو قصير يسير تجنبًا للإِطالة في المقال أو التعقيد في المثال. فمنها:
أولا: يقول الله جل وعلا: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ. بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}[24].
فقد أنكر الكفار بعثهم بعد موتهم واستغربوه واستبعدوه وقالوا: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ}[25] وقالوا: {هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ}[26].
فقد روي "أَنَّ عَدِيَّ بْنَ رَبِيعَةَ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: حَدِّثْنِي عَنْ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَتَى يَكُونُ ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ أَمْرُهَا وَحَالُهَا ؟ فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ. فَقَالَ: لَوْ عَايَنْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَمْ أُصَدِّقْكَ يَا مُحَمَّدُ وَلَمْ أُؤْمِنْ بِهِ أَوَ يَجْمَعُ اللَّهُ هَذِهِ الْعِظَامَ ؟ ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}[27]"[28].
وفي رواية أخرى أنها نزلت في أبي جهل.
وقد لفت تخصيص البنان بذكر القدرة على إِعادة خلقه رغم صغره، انتباه المفسرين، وحظي باهتمامهم.
فقد أقسم الله في هذه الآيات بيوم القيامة وبالنفس السليمة الصافية الباقية على نقاء فطرتها حيث تلوم صاحبها على معصيته وتقصيره في جنب الله وتفريطه في طاعته.
أقسم الله بهما على أمر عظيم وشأن خطير، على ركن من أركان الإِيمان. وهو بعث الإِنسان يوم القيامة ليس هذا فحسب بل هو قادر على أن يعيد تسوية بنانه سبحانه وتعالى.
ومن هنا طفق المفسرون يلتمسون سر تخصيص البنان بالذكر. وهو جزء صغير من تكوين الإِنسان.
فذكروا تعليلات لطيفة وجيهة لهذا الأمر، وأنه خص بذلك لبديع صنعه ودقيق خلقه. ولما فيه من أعصاب وعروق وأظافر رغم صغر حجمه.
وقد ساهم العلم الحديث بما توصل إِليه من سر البصمة في القرن التاسع عشر الميلادي في كشف بعض جوانب الحقيقة، حيث إِن كل إِنسان على هذه الأرض يتميز ويتفرد ببصمة خاصة به لا تتطابق مع أي شخص آخر في العالم حتى في التوائم العائدة إِلى بويضة واحدة.
وذلك أن "البصمة تتكون من خطوط بارزة في بشرة الجلد تجاورها منخفضات وتعلو الخطوط البارزة فتحات المسام العرقية تتمادى هذه الخطوط وتتلوى، وتتفرع عنها تغصنات وفروع لتأخذ في النهاية وفي كل شخص شكلا متميزًا "[29].
ولهذا السبب فقد اعتمدت هذه الطريقة لتمييز الأشخاص واكتشاف المجرمين واللصوص[30]
وتتجلى عظمة الخالق جل وعلا في تمييز أشكال البصمة مع ضيق المساحة المتاحة، وتكاثر ألوف الملايين من البشر.
يقول صاحبا كتاب: مع الطب في القرآن الكريم: "فقد يكون هذا هو السر الذي خصص الله تبارك وتعالى من أجله البنان".
قلت: لا ينبغي أن يحصر سر ذلك البنان بما تمت معرفته، فقد تكشف الأيام عن المزيد وإِنما هو بعض أسرار الله في خلقه وليس في الآية ما يدل على الحصر.
بل إِن هناك توجهات جديدة لمعرفة العلاقة بين الخطوط الموجودة في كف الإِنسان
والحالات المرضية من جسمية ونفسية وذلك للعلاقة القوية الموجودة بين المخ والجهاز العصبي والحواس من جهة، وبين سطح الجلد من جهة أخرى[31].
ثانيًا: قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا}[32].
تتحدث الآية الكريمة عن قدرة الله العظيمة، وعن أحداث يوم القيامة الجسيمة، فالله جل وعلا الذي بعث الإِنسان وهو رميم فأحياه بعد ممات وجمع أعضاءه بعد شتات، قادر على تبديل جلده المحترق بجلد جديد، وليس شيء على الله بعزيز. إِنما إِشارة الإِعجاز في الآية تكمن في تعليل هذا التبديل وأنه {لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}[33].
فالآية ظاهرة الدلالة في أن علة التغيير والتبديل للجلود ليذوقوا المزيد من العذاب الأليم. فدل ذلك على أن أكثر أعضاء الجسم غنى بمستقبلات الألم هو الجلد. كما أن الحروق هي أشد المنبهات الألمية.
وهذا ما عرفه العلم الحديث وقرره. ذلكم أن الجلد غني بالألياف العصبية التي تقوم باستقبال ونقل جميع أنواع الحس. لذا فإِنه عندما يحقن الإِنسان بإِبرة فإِنه يشعر بذروة الألم عندما تجتاز الإِبرة الجلد. ومتى تجاوزت الجلد خف الألم[34].
فظهر من الآية الكريمة أن تجديد الجلود ليستمر ويدوم الشعور بالألم دون انقطاع ويذوقوا العذاب الأليم. أعاذنا الله من عذابه.
ثالثًا: يقول الله جل وعلا: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ. ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[35].
في داخل مملكة النحل الكثير من عجائب الخلق، وبدائع الصنع ودقائق التنظيم أظهرت ذلك الدراسات المستفيضة والرصد الواعي للنحلة في مملكتها فتعرفت الدراسات على أنواعها ومهمات كل نوع منها وروعة التنظيم فيها واختيار الشكل السداسي لبناء بيوتها دون غيره من أنواع الأشكال الهندسية الكثيرة ؛ لأنه الشكل الهندسي الوحيد التي لا تبقى معه أية فراغات أو زوايا مهملة.
ويتوج ذلك ما يخرج من بطون النحل من عسل مصفى منقى يحصل به الشفاء لكثير من أدواء المرضى. فقد قررت الآية الكريمة هذه النتيجة الهامة السّارة: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[36].
قررت الآية ذلك وتركت التفصيلات لجهد الإِنسان المحوط بعناية الله وهدايته.
ليكتشف أساليب العلاج به، وأنواع ما يشفيه من مرض، وأثر ألوان العسل الناتج عن نوع غذائه في ذلك.
وقد اتجهت الكثير من الدراسات للتعرف على مكونات العسل ومزاياه فاكتشفوا شيئًا وبقيت أشياء. فوجدوا أنه منبع للمواد السكرية الطبيعية، وأنه يحتوي على مجموعة من الفيتامينات، والبروتينات والأملاح المعدنية.
ووجدوا أن فيه مواد مضادة لنمو الجراثيم. وأنه مادة شديدة التعقيد يحتوي على مواد مختلفة لم تجتمع في أي مادة أخرى، فأصبح العسل علاجًا لكثير من الأمراض كأمراض الروماتيزم، ومرض التراخوما ولعلاج أمراض القلب والذبحة الصدرية، وللمصابين بقرح المعدة والاثنى عشر. حين يؤخذ قبل وجبات الطعام بنحو ساعة مذابًا في كوب ماء دافئ ومفيد في علاج الزكام وواق لنخر الأسنان، ومعجل بالتئام الجروح وغيرها كثير ليس هذا مجال الإِطالة بذكرها ولا بيان كيفية استعمالها. بل إِن فوائده الطبية لا تقتصر على العسل بل وتشمل السم وحبيبات اللقاح[37].
ويكفي أن القرآن الكريم قرر هذه الحقيقة ثم ربطها بما ينبغي أن تهدي إِليه وتدل عليه من قدرة الخالق جل وعلا وبديع صنعه الذي خلق فسوى، والذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى. إِنها آية تدل من فكر وتدبر. وكم في كون الله من آياته.
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
لكنها لا تدل إِلا من يتفكر. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[38].
رابعًا: قال الله جل وعلا: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ}[39].