بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله الذي جعل المؤمنين إخوة في الإيمان، وألف بين قلوبهم، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وصيرهم بعد التفرق كالبنان أو البنيان؛ نحمده تعالى فضلنا على سائر الأمم، كما فضل ديننا على سائر الأديان، ونشكره عز وجل جعلنا خير أمة أخرجت للناس بشهادة القرآن، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في جلاله وقدسه، ونشهد أن سيدنا محمداً صلى الله عليه وآله وسلم القائل:«لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»(1)، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، والتابعين لهم بإحسان ما أشرق الوجود بنور شمسه.
أما بعد:
فإني أوصيكم بتقوى الله تعالى في السر والعلن، وفي القول والعمل.
أيها المسلمون! لقد بعث الله نبيه في أمة كانت من أرذلِ الأمم، وران عليها الضعف وطمّ، أمة كانت متمزقة، أمة كانت متفككة متناحرة، القوي يعمل فيها ما يشاء، والضعيف لقمة سائغة لمن يشاء، نزعت الرحمة من قلوب كثير منهم، وحلَ محلها الأنانية والقسوة، وطبع على قلوب آخرين حتى كانت مضرباً للمثل في حقارتها وذُلها وصغارها بين الأمم؛ فكانت بعثة هذا النبي الرءوف الرحيم صلى الله عليه وآله وسلم متنفساً لهذه الأمة، ونجاةً لها من الغمة، وسبباً في جمع الكلمة، ووحدة الصف، والنهج بها إلى أرقى مكانة، وأرفع منزلة، حتى سادت وسيطرت على سائر أمم الأرض، ونال عدلها جميع البشرية صغيرها وكبيرها ذكرها وأنثاها، فطهروا الملوك الجبابرة، والسلاطين الظلمة، والوزراء الفجرة، وصاروا أقوياء وعلماء وأغنياء وسادة الدين والدنيا، ولكن بماذا يا تُرى وصلت الأمة وبزمن يسير إلى هذا المستوى، وإلى هذا السؤدد وهذه المكانة العليا؟
لا شك أنه بعد انعتاقهم -أعني بهم سلف الأمة من الصحابة ومن بعدهم- بعد انعتاقهم من رقة الحياة الآسرة اللاهية المُردية، وبعد أن فقهوا علة وجودهم على ظهر هذا الكوكب؛ إذ سمعوا قول الله يقرع الأسماع والقلوب: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ومن ثم صرفوا هممهم إلى العناية لما خلقوا له، وجعلوه نصب أعينهم في كل خطرة من خطرات حياتهم، فإذا هم عباد خاشعون مخبتون في ليلهم، يقظون في نهارهم، لا يركبون متن الحرام، ولا يحيدون عن شرع الله القويم، ولا يغيب عن بالهم أبداً أنهم يعيشون في دار نفاد زائلة، ظلها زائل، ونعيمها حائل، نزهوا أنفسهم عن الارتكاس في حمأة الفتن، ورجس الشهوات، واتخذوا العمل الصالح مركباً إلى شاطئ الأمن يوم الفزع الأكبر، فصدق فيهم قول الشاعر:
إن لله عباداً فطناً *** طلقوا الدنيا وخافوا الفتن
نظروا فيها فلما علموا *** أنها ليست لحي وطناً
جعلوها لجة واتخذوا *** صالح الأعمال فيها سفناً
لقد وصل هؤلاء إلى تلكم المنزلة يوم أن كان الأمير والمأمور يقفان صفاً واحداً في وجه الطغاة، ويوم أن كانوا يرون في الجهاد والدعوة متعة لا تعدلها متعة الزفاف إلى عروس حسناء، كان سيف الله خالد بن الوليد يقول:" ما ليلة تهدى إلى بيتي فيها عروس أنا لها محب، وأبشر فيها بغلام، بأحب إلي من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين أصبح بها العدو"(2).
وتدور الأيام دورتها، ويحس بدنو أجله؛ فلا يأسى على شيء من الدنيا كأساه على فراق ميادين الجهاد، فيقول:" لقد طلبت القتل في مظانه فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله من ليلة بِتْها وأنا متترس والسماء تهلني بالمطر إلى الصبح حتى أغرنا على الكفار"(3).
لقد وصلوا إلى تلك المكانة يوم أن كان أحدهم -وهو أبو خيثمة- يعود إلى بيته في يوم قائظ بعد خروج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى تبوك، فيجد زوجتيه قد أعدت كل واحدة منهما عريشها في بستانه الوارف الجميل، وبردت فيه الماء، وهيأت له الطعام، فلما دخل إلى هذا المجلس الناضح بالمتعة والجمال والنعيم، تذكر مسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك فقال:"رسول الله في الضح -أي: في حرارة الشمس والريح- وأبو خيثمة في ظل بارد، وطعام مهيأ، وامرأة حسناء، ما هذا بالنصف! والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله، فهيئا زادي ففعلتا دون توكأ أو معارضة أو تثبيط"(4)، ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أدركه في تبوك.
كان الواحد منهم يقرأ آية الجهاد وهو شيخ طعنت به السن، وتراخت عليه الأيام؛ فتهتز لها نفسه، وتستجيب لها جوارحه، فينطلق إلى الجهاد منعتقاً من إرهاق السنين، وضعف الشيخوخة، وكأنه فتىً ما يزل في ريعان شبابه، فأبو طلحة رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: {انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [التوبة:41]، لما قرأها قال لأولاده:" يا بني لا أرى ربنا إلا استنفرنا شباباً وشيوخاً، يا بني جهزوني.. جهزوني، فقالوا: يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله حتى مات، ومع أبي بكر حتى مات، ومع عمر حتى مات فدعنا نغزو عنك؟ قال: لا. جهزوني، فغزا حتى مات في البحر رضي الله عنه وأرضاه"(5).
بهذه الروح الجهادية العالية، وتحت هذه الراية المقدسة.. راية لا إله إلا الله.. لا راية العلمنة والزندقة، ولا راية الديمقراطية المزعومة.. براية لا إله إلا الله استطاع الأجداد أن يسلوا عروش البغي والطغيان، وأن يرسوا دعائم المجد والحضارة، وأن يصنعوا تاريخ الإسلام، لكن الحسد المتأجج في نفوس الأعداء جعلهم يرصدون وقت غفلتها؛ ففي كل قرن بل وفي كل عام يوقدون نار حربهم ضد هذه الأمة التي قويت بعد ضعف، وعزت بعد هوان، لقد ضل أعداء الإسلام يترقبون الوهن الذي يدب إليها، والمرض الذي ينخر جسمها حتى يثبوا عليها ويكتموا البقية الباقية من أنفاسها؛ فغرسوا جراثيم في جسم الأمة الإسلامية هم من أبنائها لكي لا تستيقظ الأمة الإسلامية على وخز الإبر السامة المحقونة بالجراثيم الفتاكة التي تغرز في جسمها، ولا غرو في ذلك! فهم يدركون قوة الإسلام إذا اعتصم أهله بحبله، يقول أحدهم:" إن الإسلام هو الجدار الوحيد في وجه الاستعمار الأوروبي"، ويقول الآخر: "لن تستقيم حالة الشرق ما لم يُرفع الحجاب عن وجه المرأة ويغطى به القرآن".
ومع الأسف فقد تحقق هذا في كثير من بلدان الإسلام بعد تخطيط ماكر متدرج كانت بدايته تكسير أجنحة الإسلام ليمنعوه من التحليق، ففي الغرب سحقوا دولة الإسلام في الأندلس في وحشية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وفي الشرق اجتاحوا دولة الإسلام في شبه القارة الهندية وروسيا، ثم عمدوا إلى القلب؛ فأجهزوا على الخلافة الإسلامية، فهدمت المساجد، وأقيمت الكنائس، وأحرقت المصاحف، وراج سوق الفن والطرب، واستبيح الربا، واستحل الزنا، فدمرت القلوب كما دمرت الديار، وسقط الكثيرون من المسلمين في قبضتهم حتى أصبحت ترى من ينتسب إلى الإسلام ولكنه لا يصلي.. ترى من ينتسب إليه ولكنه لا يصوم ولا يزكي، يقول: أنا مسلم لكنه يأكل الربا، يقول: أنا مسلم لكنه لا يفتأ عن شرب الخمور، ولا يبالي ويزني، ولا يتحرج، ترى من يقول: أنا مسلم، لكنك لا تفرق بين زوجته وزوجة غيره من أهل الكفر من العري والتهتك فيها.
وهكذا في انحدار وسقوط حتى جعلونا أمة ممزقة، أمة جاهلة تقول ولا تفعل، تَسمع ولا تُسمع، تقعد ولا تعمل، مسرحاً للحروب والفتن، وميداناً للهو واللعب، وموطناً للذل والفقر، فشربت المياه الكدرة، واستنشقت الروائح النتنة، والتهمت الأطعمة الفاسدة، حتى أصبحت أسيرةً للشهوات، وفريسةً للسباع، تُسبى من كل جهة، وتساق إلى الموت في كل حين؛ دماؤها مهدرة، وديارها مستباحة، وأموالها ضائعة، ومراقصها عامرة، وحياتها معقدة، ومشاكلها متعددة، وظلت على هذه الحالة البئيسة قروناً {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33].
والآن وفي هذه السنوات، وبعد أن بدأت الأجيال تنقض الغبار عن أجسامها، وتزيل الغشاوة عن ناظريها؛ لتبصر مكمن العزة التي عاشها أسلافهم، فيسعون سعياً حثيثاً لتدارك ما بقي، وإصلاح ما تلف؛ ليعود لهم ذلك العز والتمكين، وبعد أن بدأ أهل الإسلام في كل قطر يشعرون بالصغار المخيم على أنفسهم، وعلى أهليهم وأوطانهم، وليتحرروا من قيود الكفر بشتى ملله إلى حرية الإسلام وعدله، لينضووا تحت رايته؛ فيسودوا به البلاد والعباد، ويحرروها من الظلم والفساد، أدرك الخصوم ذلك فجدوا في محاربته، وإدخال الشكوك على أهله، وتوجيه التهم ضد معتنقيه، ووصفهم بأقبح الصفات، وتسميتهم بأقبح الأسماء، فتارةً يُتهمون بالرجعية، وتارةً بالتحجر، وتارةً بالتطرف والتزمت، وتارةً بالوصولية، وأذنابهم من أبنائنا يروجون لهم هذه التسميات، وصدق الله إذ يقول:{ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217].
فالذي يطالب بإزالة القانون الوضعي البشري المعرض للنقص والزلل والعيب والخطأ.. الذي يطالب بإزالته وإحلال تحكيم الكتاب والسنة مكانه يتهم بهذه الاتهامات، والذي يطالب بإزالة منكر من المنكرات يوجه اللوم إليه، والعتاب عليه، ويتهم بإثارة البلبلة والفوضى.
وإمعاناً في تضليل أمة الإسلام، ومحاولة إدخال هذه السموم من هذه الأسماء المخترقة، قام أئمة الكفر إلى تعتيم الأمور، وحجب الحقائق عن أبصار أهل الإسلام، ففي الوقت الذي تتكلم الصحف عن بيع كلب بمليون دولار، وعن موت خنزير، وعن الرجل الذي تحول إلى أنثى فانتقمت زوجته وتحولت إلى رجل.. إلى غير ذلك من الهذيان، في هذا الوقت نفسه تعتم الأخبار، وتكتم الحقائق عن مقتل العشرات بل المئات من المسلمين، وعن الديار التي تسلب بكاملها من أيدي المسلمين، ولا حول ولا قوة إلا بالله! {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8].
وفي نهاية المطاف أقول: والله إن الإسلام قادم، وسينتصر لا محالة، ولكن بعد رجوع أهله إليه، وبوادر رجعتهم بادية واضحة -ولله الحمد- والعجب كل العجب أن يدرك هذا من ليس منا، يقول مفكر ألماني:" الإسلام قادم لا محالة، ولكن ضعوا عوائق وعراقيل لتأخيره فقط".
فالسعيد أيها المسلمون السعيد من كان من أنصاره وأعوانه من المسئولين وغيرهم، والشقي من اعترض طريقه ووقف في وجه أهله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) البخاري: بَاب من الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ (1/14)، رقم (13)، ومسلم: بَاب الدَّلِيلِ على أَنَّ من خِصَالِ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُسْلِمِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ من الْخَيْرِ (1/67)، (45).
(2) مصنف ابن أبي شيبة (4/214)، رقم (19421)، ومسند أبي يعلى (13/141)، رقم (7185)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد (9/350):"رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح"، والإصابة في تمييز الصحابة (2/254)، وفضائل الصحابة للإمام أحمد (2/814)، رقم (1476).
(3) الإصابة في تمييز الصحابة (2/255)، والبداية والنهاية (7/116)، وسير أعلام النبلاء (1/381).
(4) تاريخ الطبري (2/183)، ودلائل النبوة للبيهقي (5/222)، والبداية والنهاية (5/7)، وتاريخ الإسلام (2/633)، والاستيعاب (4/1642).
(5) الاستيعاب (2/554)، وتاريخ مدينة دمشق (19/423).
~~~~~~~~~~~
من خطبة: الإسلام قادم لفضيلة الشيخ/ محمد بن سليمان المحيسني