تــــــــاريخ النقد في فــــلسطين
تبر النقود من الوثائق الهامة والحيوية في أية معادلة اقتصادية ومالية وهي جزء من علم قائم بذاته هو "علم النميات" Numismatics في عالمنا المعاصر. وهي تفصح عن دلالات عدة لهوية الأمة التي قامت بسكها،
وتفسر العديد من جوانب حضارتها ممثلة في أمجادها التاريخية وفعاليتها السياسية والاقتصادية تماماً كما تكشف عن أبعادها الجغرافية ووزنها المالي وثقلها الدولي وقسماتها الفنية وكما تعبر بمأثوراتها المنقوشة عليها عن معتقداتها ونسيج حياتها الاجتماعية وقدرات أبنائها العلمية في كيفية اكتشاف المعادن وسبل استعمالها وطريقة مزجها وصهرها وما تتخذه من قوالب متنوعة للسك وكفاءة حرفييها في إخراجها إخراجاً متقناُ. إذاً، فالنقود تمدنا بالتاريخ الحضاري للأمة بمعناها الشمولي.
وبحكم موقع فلسطين الاستراتيجي جغرافياً في قلب العالم القديم والحديث، وبفضل موضعها "المقدس" في كبريات الشرائع الدينية، كثيراً ما تعرضت لتقلبات سياسية تمخضت بطبيعة الحال عن اعتداءات وغزوات استعمارية هدفها السيطرة على هذه البقعة "عقدة المواصلات" وجسر الاتصالات ومهبط الرسالات متوسلة شتى الادعاءات. فمنها " الدين" أحياناً تجنياً عليها ومجافة للحقيقة.. إلا أن جميعهم ارتدوا من حيث أتوا وبقى أهلها متمسكين بالأرض بالرغم من كل ما عانوه من ويلات.
وأخر هذه الغزوات الحملة الصهيونية التي اتخذت من "الدين" شعاراً لها ومن حقبة وجيزة من التاريخ لم تتجاوز السبعين عاماً وسيلة لأناس عاشوا حياة البداوة على جزء من الأرض وسط شعب حضاري عاش على كامل مساحتها لألاف السنين واتخذوا من لغته وثقافته وحضارته ثقافة لهم واستنبطوا من الهوية العنصرية ديناً لهم، متناسين من عاشوا عليها قبلهم عبر الاف السنين من سكان المنطقة من الأموريين والكنعانيين والفينيقيين الفلسطينيين والعرب – أي كانوا من جملة من استوطنوا هذا المعجم التاريخي الحضاري الذي عرفته فلسطين باتصال تاريخي مستمر لآلاف السنين تبنى الحضارات المتعاقبة عليها دون انقطاع.
وكل محاولات طمس الحقائق التاريخية وتحريف الكلام لم تنفع لتغيير الحقائق التاريخية. فقد أظهرت الحفريات بأن هناك حضارات أهم بكثير مرت على أرض فلسطين ودمغتها بطابعها المميز. وكانت السبب الرئيسي الذي جعل منها مهداً للأديان ومنارة لشعوب الأرض لا مثيل له في العالم. فالحضارات المشرقية من كنعانية وفينيقية ونبطية وفلسطينية وفرعونية وأشورية وفارسية وهكسوسية بالرغم من الحقبات الغربية من يونانية ورومانية وبيزنطية التي عاشت فيها ما يقارب العشرة قرون لم تتمكن من إزالة هويتها وما فتأت أن عادت مشرقية إسلامية مسيحية وعربية وصولاً إلى الحقبة العثمانية والانتداب البريطاني الذي أفرز الكيان الصهيوني الجاثم على أرض فلسطين منذ العام 1948.
كانت المدن/ الممالك الكنعانية والفلسطينية من أوائل الممالك في منطقة الشرق الأوسط التي سكت فيها النقود نظراً للنفوذ الذي كانت تتمتع به بحكم نشاطها التجاري الواسع كونها كانت همزة الوصل على الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط بين خطوط القوافل المتنقلة بين شبه الجزيرة العربية والشرق الأقصى وبلدان حوض البحر المتوسط وبالأخص مصر واليونان.
سيتم في هذا المقال تبيان أثر النقود ،حيث سنبدأ بمدخل تاريخي موجز للإثباتات الأثرية التي تظهر كيف أن أهل فلسطين ضربوا النقود منذ أكثر من ألفي وخمسمائة عام كإثبات راسخ لوجودهم. وكدليل ساطع على المكانة الهامة التي كانوا يتمتعون بها في العالم القديم، حيث أن جميع هذه النقود حملت اسم فلسطين ومدن فلسطين في مدى زمني لم يضاهه فيها أية أمة وعلى مساحة أرض واسعة.
سيتم تناول المواضيع كالتالي:
1-النقود العربية الفينيقية أيام الفرس 538 – 332 ق.م
2-سك النقود اليونانية في فلسطين 320 – 63 ق.م
3-سك النقود الرومانية في المدن الفلسطينية 63 ق.م – 395 م
4-الحقبة البيزنطية ونقودها المتداولة في فلسطين 365 م – 632 م
5-النقود العربية في العصر الإسلامي 632 م – 1516م
أ-النقود في العصر الأموي.
ب-النقود في العصر العباسي.
ج-النقود في العصر الأيوبي والمملوكي.
د-نقود الحقبة العثمانية.
ه-النقود المصرية في فلسطين في مرحلة الانتقال.
أولاً: النقود العربية الفينيقية في غزة
سيطر الفرس على بلادنا قرابة قرنين من الزمان نجحوا خلالهما بفضل خبرتهم الإدارية وحنكتهم السياسية والاقتصادية من حكم البلاد هذه الحقبة الطويلة، وكانت النقود المستخدمة في تلك الحقبة " الداريق" وهي نقد ذهبي، كما ضربت نقود فضية كانت تدعى سجلوس بمعنى "شاقل"، واستخدمت هذه العملة في فلسطين كعملة قانونية وشرعية: وكان وجه النقد الذهبي يظهر عليه الملك الفارسي ذو اللحية معتمراً على رأسه التاج ، مرتديا "الكانديس" أي السروال، ويظهر على هيئة راكع مستعد للجري وعلى كتفه الايسر مجموعة من النبل وبيده اليسرى قوس وبيمناه رمح.
الشكل1
ثانياً: سك النقود اليونانية (البطلمية والسلوقية) في فلسطين 320 – 63 ق.م :
عند استيلاء الاسكندر الاكبر على بلادنا في عام 332 ق.م ضرب نقودا لها تصميمها الخاص، واستخدم موازين ومقاييس أثينية، حيث شاعت في فلسطين على مدى ربع قرن 332 – 306 ق.م نقود ذهبية تدعى "ستيتر" وفضية ذات وحدات مختلفة منها "التترادارخما"، أي الأربع دارخمات (الشكل 1)، والدراخما، ونصف الدراخما بالإضافة إلى المسكوكات البرونزية والنحاسية.بعد موت الاسكندر الاكبر انقسم قادته على انفسهم بطالمة في مصر، وسلوقين في بلاد الشام، واصبحت فلسطين بحكم موقعها بين المطرقة والسندان. وفي هذه الحقبة البلطمية- السلوقية ضربت النقود في أربع مدن فلسطينية هي غزة (الشكل 2) وعسقلان (الشكل 3 ) ويافا (الشكل4 ) وعكا .
الشكل2
الشكل3
الشكل4
ثالثاً: سك النقود الرومانية في المدن الفلسطينية:
من أشهر المدن الفلسطينية كانت:
رفح: حيث سكت نقوداً تعود الى نهاية القرن الثاني الميلادي وعليها اسمها وتعود للامبراطور سيفروس الجبانوس وأخرى للامبراطور أورليس.
غزة: ضربت نقودها طيلة الحقبة الرومانية ،وقد عثر على الكثير منها في غزة وما حولها دلالة على ما كانت تتمتع به من انتعاش اقتصادي وتجاري (الشكل 5) و (الشكل 6 ) .
الشكل5
الشكل6
عسقلان: سكت عسقلان نقودها على الطراز الروماني، وقد تميزت نقودها بظهور السفن العسكرية تقف فوقها أحيانا بعض الالهة، كما ظهر العديد من الرموز مثل سعف النخيل وبعض الطيور والمذارة..الخ.( الشكل 7 )
الشكل 7
وهكذا وبالنمط نفسه ضربت كل من مدن يافا وقيسارية ودورا وعكا وبيت جبرين كذلك ايلياء (القدس)، هذا بالاضافة إلى سك النقود في مدن طبريا وبيسان وسبسطية. (الشكل 8 ).
الشكل 8
رابعا: الحقبة البيزنطية:
حاولت الإمبراطورية البيزنطية إنهاء دور المدن الفلسطينية في سك النقود، وعملت على توحيد قيما للسك على أساس الذهب الذي جعلوا منه الوحدة الأساسية " السوليدس" أي الدينار، وقد قدر بأربعة وعشرين قيراطاً.(الشكل 9 )
الشكل 9
هذا بالاضافة الى ضرب الفلوس البرونزية، وهكذا استمر سك هذه النقود حتى عصر هرقل الذي ضرب الدراهم الفضية حتى الفتح الاسلامي.
خامساً: النقود العربية الإسلامية في فلسطين:
ضربت النقود في فلسطين في عدة مدن هي طبرية وبيسان وايلياء ويبنا وبيت جبرين
الشكل 10
ومعظمها من الفلوس، وقد تميزت بتأثرها بالنمط البيزنطي، وكذلك الحال بالنسبة للدنانير الذهبية والدراهم الفضية ، وجميعها كانت تقليداً لنقود جستنيان الثاني وقسطنطين الثاني كما هو واضح في الشكل 10، لذلك اطلق عليها اسم مسكوكات عربية – بيزنطية، وهي من البرونز ظهر على وجه كل نقد شخصين يقفان مواجهة، وعلى الظهر حرف M للدلالة على قيمتها، مما يدل على بداية تحرر الاقتصاد العربي الاسلامي من التبعية البيزنطية المحتلة.
أ- النقود الاسلامية في العصر الاموي:
بعد خلافة الخليفة عبدالملك بن مروان، انتشرت مدن السك العربية الاسلامية في معظم المدن الفلسطينية، خاصة بعد عام 77ه في كل من عكا وطبرية وبيسان ويبنا وايلياء وغزة وغيرهم، وقد انقسمت مراحل سك النقود بفلسطين في هذه المرحلة الى ثلاث مراحل وهي:
المرحلة الأولى:
كانت عبارة عن نقود بيزنطية الملامح مع وجود بعض التعديلات عليها مثل استبدال صورة هرقل بصورة الخليفة عبدالملك بن مروان مع الإبقاء على العمود القائم على المدرجات الأربعة التي يعلوه الصليب من قبل وعلى الظهر نقش "بسم الله ضرب هذا الدينار سنة ست وسبعين" ومن ثم استبدلت الشارات المسيحية بكرات مستديرة وحولها عبارات التوحيد.
المرحلة الثانية:
استبدل فيها الخليفة صور الأباطرة بصورته وقام بشطب جميع المأثورات المسيحية ووضع على الوجه صورته وحولها "محمد رسول الله"، أي أنها أصبحت عربية اسلامية باستثناء حرف M الذي ظهر في الوسط وحوله كلمة فلسطين.
المرحلة الثالثة:
أصبحت فيها النقود عربية اسلامية خالصة. كان أهمها الفلوس النحاسية التي ضربت بكثرة في المدن الفلسطينية السابقة الذكر والتي كان عليها في الغالب الأعم شهادة التوحيد وآيات قرآنية وسنة الضرب ومدينة الضرب، كما تميزت بوجود صورة للهلال والشمعدان والكأس…الخ.
ب- النقود الاسلامية في العصر العباسي:
لم يطرأ أي تغيير على النقود ومأثوراتها طيلة الحقبة العباسية باستثناء تبديل سورة الاخلاص–"محمد رسول الله" بحيث جاءت كتابتها في ثلاثة أسطر رأسية، كما اضيف على ظهر المسكوكات"لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله (الشكل 11).
الشكل 11
وبقي الحال كذلك طيلة الفترة الطولونية والإخشيدية في القرن الثالث الهجري بحيث لم يكن هناك اختلاف الا بكتابة اسم الأمير الطولوني بدلاً من اسم الخليفة.
وهكذا كانت أيضاً سكة الأخشيديين في فلسطين على يد محمد بن طغج الاخشيدي في كل من الرملة وطبرية حتى الفترة الفاطمية، والذين قاموا بإعادة دور السك الفلسطينية في كل من عكا وطبرية واللد وعسقلان وأيلة، وفي الرملة حيث بدأوا في الضرب عام 359هـ/970م، ونظرا لاعتناقهم المذهب الشيعي فقد بدا هذا التأثير المذهبي واضحاً على نقودهم التي جاءت عليها كتابات على هيئة ثلاث حلقات مستديرة تتوسطها حلقة صغيرة، وأحياناً حلقتين، أما بالنسبة للكتابة فقد زيد على الشهادة وبعد عبارة "محمد رسول الله" عبارة " علي ولي الله " أو " على صفوة الله"، وقد ضربت الدنانير والدراهم الفاطمية في المدن الفلسطينية.
وقد تميز الفاطميون بضرب النقود التذكارية الخاصة بالمناسبات السعيدة، وقد ذكر المقريزي أنه ضربت نقود ذهبية بمناسبة "خميس العدس"، وقد شاركت مدينة عسقلان الفلسطينية بضرب هذا النوع من النقود.
وقد تعر ض الفاطميين لغزو السلاجقة، حيث قام هؤلاء في فترة وجيزة بضرب النقود في كل من القدس وعكا.
وبقي الفاطميون في صراع مع السلاجقة حتى داهمهم الصليبيون مع نهاية القرن الحادي عشر الميلادي.
ج- السك في العصر الأيوبي والمملوكي:
انشغلت الدولة الأيوبية في مقاومتها للصليبيين المحتلين للأرض الفلسطينية بكل ثقلها، والتي حولت معه فلسطين مسرحاً حربياً للقتال، لذا لم تتح الفرصة لضرب نقود تحمل اسم فلسطين أو المدن الفلسطينية ، لذلك ضربوا النقود في كل من القاهرة والإسكندرية عام 1169م وفي كل من دمشق وحلب وحماة أيام صلاح الدين الايوبي.
وقد ضربت النقود على النمط الفاطمي. وشاعت هذه النقود بجميع أنواعها: الدنانير والدراهم، أما بالنسبة للفلوس فلم يظهر عليها اسم الخليفة، بل اقتصرت على اسم الملك الأيوبي فقط.
وهكذا استمر ضرب النقود الأيوبية مع استمرار الخلاف بين الملوك، خاصة في الفترة الواقعة بين 1240-1248م. وبموت الملك توران شاه انتهت الدولة الأيوبية، واختفى الذهب والفضة بشكل واضح من الأسواق واضطر الصليبين الى جلبها واستيرادها إلى فلسطين وسكوا منها نقوداً لهم في كل من مدينتي القدس وعكا زيفوا فيها النقود العربية الأيوبية ابتداء من عام 1250 ميلادية كوسيلة من وسائل تدمير الاقتصاد العسكري والسياسي.
أما في الفترة المملوكية، كانت ما زالت فلسطين لم تتحرر بعد من السيطرة الصليبية، هذا بالإضافة إلى الخطر المغولي.
في تلك الفترة ضرب المماليك في بعض المدن الفلسطينية مثل غزة، وسكت نقودها في القاهرة والاسكندرية، وكذلك في مدن دمشق وحماة وحلب، وكانت الملكة شجرة الدر أول من ضرب النقود في هذا العصر والتي لم تستمر في حكمها اكثر من شهرين تقريباً.
ثم بدأ عصر سك النقود من الدنانير الذهبية والدراهم الفضية والفلوس النحاسية، تميز بعضها بوضع الرنوك عليها مثل الاسد الذي كان رمز للظاهر بيبرس. وفي النهاية لم تختلف النقود المملوكية عن سابقتها، حيث أنها حملت منذ بدايتها المأثورات الأيوبية حيث كان يكتب على الهامش: لا اله الا الله محمد رسول الله أرسله الهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله.وفي المركز اسم السلطان أو الملك.
- الحقبة العثمانية: ( 1516-1917)
بعد انتصارهم على المماليك، استولي العثمانيين على بلاد الشام ومنها فلسطين في موقعة برج دابق عام 1516م. وقد خلت النقود العثمانية من ذكر الآيات القرآنية عليها التي تعود عليها أبناء فلسطين، وحل محلها عبارات وألقاب خاصة بالسلاطين مثل " ضارب النضر" و "صاحب العز"، مستخدمة اللغة العربية، ولم تستخدم اللغة التركية الا عندما اتبعت سياسة التتريك في اواخر عهدها.
لم يتم ضرب النقود في فلسطين باستثناء محاولة في عهد السلطان عبدالحميد الثاني سنة 1293هـ الا ان المحاولة لم تنفذ.
وقد تعرضت الدولة العثمانية نتيجة توسعها وكثرة الحروب الى الكثير من الأزمات الاقتصادية، وكذلك تعرضت النقود أحياناً للغش والتدهور، خاصة عند نهاية القرن السادس عشر واوائل القرن السابع عشر الميلاديين نتيجة اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح.
وهكذا بقي الحال في التأرجح في تنمية النقد، خاصة عندما بدأ التدخل الأجنبي بشكل واضح، وخاصة من فرنسا وانكلترا وبروسيا وانتشار نقدها في البلاد، كما بدء الصهاينة لأول مرة بقيادة "هرتزل" في استغلال ضعف الدولة العثمانية ومحاولة الاستيطان في فلسطين، محاولاً إغراء السلطان عبد الحميد الثاني بتسديد ما عليه من ديون مقابل السماح لليهود شراء الأراضي في فلسطين والاستيطان فيها، الا أن السلطان أبى ورفض كل هذه الإغراءات.
وأخيرا، وفي ظل هذه الظروف، ضربت نقود عثمانية عليها شعارات بالتركية مثل: حريت، مساواة وعدالت(الشكل12).
الشكل 12
بعد الحرب العالمية الأولى، أخذت تركيا في إصدار نقد ورقي غير قابل للاسبتدال كغيرها من الدول ، مما أدى إلى معاناة الشعب الفلسطيني من جرائها، حيث انخفضت قيمتها وتدنت الى اقل من 10% من قيمتها المرسومة عليها. بل أصبحت هذه النقود العثمانية يتفاوت سعرها بتفاوت المدن الفلسطينية واختلف سعرها من قرية الى قرية، وأصبحت العملات الأجنبية وعلى رأسها الليرة الفرنسية الذهبية هي النقد الشبة السائد في المدن الفلسطينية.
هـ- النقود المصرية في فلسطين في مرحلة الانتقال: (1917-1927)الشكل 13
بعد الحرب العالمية الاولى، وبعد اعلان وعد بلفور في 2 تشرين الثاني 1917، ضربت فلسطين في الصميم، حيث اعطى وزير خارجية بريطانيا الحق لليهود في الاستيطان والاستيلاء على الاراضي الفلسطينية. وقد دخل البريطانيون بعد هزيمة الاتراك، وهم جالبين معهم النقود المصرية معلنين في 23/11/1917 بأن النقد المصري هو نقد قانوني وهو العملة الرسمية، بالإضافة الى ما هو موجود بين أيادي الناس من نقد عثماني وبين ايادي الحلفاء من نقد بريطاني.
وبعد ان أتمت بريطانيا احتلالها لفلسطين قامت في 2/12/1918 بإصدار أوامرها بوقف التداول بالنقد العثماني الورقي والذهبي، معلنة السماح للعملة المصرية بالتداول ومعها الجنيه الذهبي الإنجليزي.
وعليه أخذ الشعب الفلسطيني يتعامل مع النقود المصرية بفئاتها المختلفة، والذي كان اسهل في استعماله من النقد العثماني الذي كثرت فئاته وتسمياته، وكانت النقود المصرية تتألف من عدة فئات أهمها:
الشكل 13
الجنيه المصري ويزن 50.8 غرام بقطر 24 ملم ونصف الجنية المصري، هذا بالإضافة إلى فئة العشرين قرشا، العشرة قروش، الخمسة قروش والقرشين.
وقد ضربت في لندن الفئات التالية: خمسة جنيهات، الجنيه المصري، ونصف الجنيه، أما بخصوص النقود الفضية، فقد ضرب القرشان والخمسة قروش والعشرة قروش والعشرين قرشاً في سنتي 1920 –
النقود الفلسطينية: (1927-1946)
وكما آنفاً استمر النقد المصري هو العملة المتداولة بين أبناء الشعب الفلسطيني الذي بدأ لأول مرة في تاريخه يكابد الصراع ليس فقط ضد موجات الهجرة الصهيونية المتدفقة على أرضه ومدنه وقراه، بل أيضاً مجابهة سلطة ما سمي ب "الانتداب البريطاني" على فلسطين وفق قرارات عصبة الأمم المتحدة كقوة عالمية آنذاك وبقيادة مندوب سام يهودي كثيراً ما كان يتلقى تعليماته من "حاييم وايزمان" زعيم الحركة الصهيونية سواء عند رسم الحدود المصطنعة في العشرينات الأولى ووضع الحواجز المعيقة للاتصال بين أبناء الأمة العربية الشامية وتسهيل عملية تدفق المهاجرين الصهاينة الذي أتى معظمهم تحت ضغط الصهيونية العالمية وليس برغبة صادقة منهم. وعليه فكرت سلطة الانتداب البريطاني – كوسيلة من وسائل ضرب الاقتصاد وتيسير عملية السيطرة على الأراضي وامتلاكها في تشكيل لجنة خاصة لدراسة ايجاد نظام للنقد خاص بفلسطين وذلك في اول نيسان/ ابريل من عام 1924م الغاية منها دراسة الخطط المؤدية لتنفيذ هذه المهمة..كجزء مهم من مخطط تهويد فلسطين الذي بدأ كما ذكرنا بوضع سياج حدودي لها، ثم الاعتراف باللهجة العبرية كلغة ثالثة في البلاد قبل عامين،والسماح لليهود بالهجرة الى فلسطين ثم وضع نقاط جمارك بما سمته "اتفاق بين حكومتي سوريا وفلسطين" يتعلق بنظام الجمارك على البضائع الصادرة والواردة بالترانزيت الى فلسطين عن طريق سوريا والي سوريا عن طريق فلسطين.
واستمرارا في هذا المخطط قام المندوب السامي البريطاني بإصدار أمر بتأليف لجنة للبت في نظام للنقد تكونت من أربعة مديري مصارف أجنبية وثلاثة من موظفي الحكومة واثنين من العرب تقوم سلطة الانتداب بتعينهما وثلاثة يهود ترشحهم اللجنة الصهيونية.
فإذا ما أمعنا النظر في هذه اللجنة نجد التحيز الصارخ ضد العرب الذين يمثلون في هذا الوقت الغالبية الساحقة للسكان اذا ما قورن بعدد اليهود واغلبهم من المستوطنين الجدد الذين لا يعرفون شيئاً حتى عن الأرض، كذلك نلاحظ ان سلطة الانتداب نفسها لم تجرؤ على اختيار اليهود بل تركت الفرصة للجنة الصهيونية في اختيارهم.
لذا هب الشعب العربي الفلسطيني رافضاً هذه الفكرة من جذورها شكلاً ومضموناً وهبت جميع المؤسسات الوطنية برفع احتجاجاتها ممثلة في مذكرة رفعتها الجمعية الإسلامية المسيحية بمدينة حيفا تحتج فيها بتاريخ 12/4/1924 م على تصرفات المندوب السامي جاء فيها:
" ان مشروع الحكومة بوضع عملة للتداول في فلسطين ضربة قاضية على اقتصاديات البلاد لأسباب كثيرة أهمها فتح الباب أمام المصارف للتلاعب بأموال البلاد تلاعباً يجرها للخسارة والإفلاس المستعجل كما هو الحال في سوريا الشمالية".
ووقفت معها أيضاً وساندتها غرفتا تجارة مدينتي يافا وحيفا بارسال تقريرين للمندوب السامي بينت فيهما فداحة الأضرار التي قد تنجم عن سك نقود فلسطينية. وقد جاء في مذكرة أبناء يافا ما يلي:
"ان هذا المشروع سابق لأوانه بالنظر إلى حال البلاد السياسية وإلى الضمانة الذهبية الضرورية غير الموجودة في البلاد".
وقد تضامنت معهم جميعاً اللجنة التنفيذية العربية بأن قامت برفع مذكرة للمندوب السامي البريطاني جاء فيها:
"ان المشروع الصهيوني وضعه مدير مصرف انجلو فلسطين الصهيوني ومولته جمعية فلسطين الاقتصادية الصهيونية"، موضحة في الوقت نفسه الأضرار التي يمكن أن تنتج عن هذا المشروع وهي "عدم استقرار النقد على سعر ثابت لان الحكومة تستطيع ان تصدر من الأوراق النقدية ما تشاء بلا قيد أو رقابة، مما يعرض ثروة البلاد لتلاعب الصيارفة والمضاربين من الأجانب، مما يؤدي معه بالسوق المالية إلى المعاناة كما تعاني سوريا الآن".
هكذا كان الشعب الفلسطيني بجميع مؤسساته يعي جيداً خطورة الموقف ويدرك تماماُ ما ترمي إليه سلطة الانتداب ومن ورائها الصهيونية من السيطرة على مقدرات الشعب واقتصادياته تمهيداً للسيطرة عليه.
ولكن وعلى الرغم من كل هذه الاحتجاجات الشعبية المبنية على أسس وقواعد اقتصادية علمية ومنطقية إلا أن المندوب السامي البريطاني الصهيوني قابلها بالرفض التام ، وأمر اللجنة باستمرار مزاولة أعمالها.
وعلى الرغم من توقفها عن تنفيذ المشروع لمدة سنتين ربما تمهيداً لتهدئة الوضع والخواطر، ما لبث بعد ذلك ان أصدر وزير المستعمرات البريطاني قراره بإصدار ما سمي " قانون العملة الفلسطينية" وعلى أثره قام بتعيين "مجلس النقد الفلسطيني" كما ورد البيان التالي:" قد عين وزير المستعمرات مجلساً أسماه مجلس العملة الفلسطينية كي يحدث عملة فلسطينية محلية على أساس الجنيه الانكليزي، وعلى العموم كي يتخذ التدابير كتوريد العملة الى فلسطين والمراقبة عليها ويتألف ممن يلي:
- المستر ب.هـ . ايزكيل أحد وكلاء التاج البريطاني للمستعمرات رئيساً.
- المستر لسلي كوبر المدير العام لبنك مقاطعة غربي افريقيا البريطانية.
- المستر أ.ج. هاردنغ من وزارة المستعمرات.
- المستر ف فيلبس من المالية عضواً فخرياً.
المستر هـ . س. رنسوم سكرتيراً.
ويكون عنوان المجلس بمدينة لندن هو 4 Mill Ababk West Mimster S.W.I وبعد ذلك قام وزير المستعمرات أيضاً بإصدار قانون رقم 907/53 بتاريخ 10/9/1926 حدد فيه واجبات وسلطات هذا المجلس ومنحه السلطة الشرعية في اصدار النقد بالنيابة عن حكومة فلسطين ليصبح بالتالي هيئة مسؤولة عن إصدار النقد، وأيدها بأن قام بتعيين المستر س.س دافس مديراً للمالية في حكومة فلسطين رقيباً للعملة فيها وذلك ابتداء من اول تشرين الثاني/ نوفمبر 1926 م. هذا الإصرار من وزارة المستعمرات البريطانية كأعلى سلطة في الإمبراطورية على المناطق المستعمرة لتنفيذ إصدار النقد الفلسطيني كان من أهم أسبابه أنه عندما عادت بريطانيا الى قاعدة الذهب في سنة 1925م وأصبحت معه السندات الاسترلينية قابلة للتحويل الى ذهب، عادت مصر الى نظام الذهب في العام نفسه. هذا بالإضافة الى تخوف بريطانيا من انفصال مصر عن العملة الاسترلينية ومردوده في تمويل نفقات جيوشها في فلسطين ومصر، فاندفعت نحو سك نقود فلسطينية بشكل يربطها معه بالفلك الاسترليني.
وعليه ومع بداية شهر شباط/ فبراير من عام 1927 ميلادية صدر مرسوم النقد الفلسطيني الى حيز التنفيذ، وبناءً عليه قام وزير المستعمرات البريطاني بإعلان قرار استبدال النقد المصري بالنقود الفلسطينية موضحاً أن الكتابة على هذا النقد الفلسطيني ستكون بلغات ثلاث هي العربية والإنكليزية والعربية، وأن صورة ملك بريطانيا لن تظهر على النقد، وان هذا النقد سيضرب في مدينة لندن.
وقد تبع هذا الإعلان ببضعة أيام قليلة منشور جاء فيه ما نصه : عملا بالسلطة المخولة في الفقرة 3 من المادة 1 من قانون النقد الفلسطيني لسنة 1927، " أنا اللفتنت كولونيل جورج ستيوارت سايمز القائم بإدارة الحكومة أعلن بأن النقود المصرية الذهبية والفضية والنكلية والورقية التي وضعت موضع التداول القانوني في فلسطين بموجب الإعلان المنشور في العدد 36 من جريدة حكومة فلسطين الرسمية المؤرخ في 1 من شباط سنة 1912 م لا تعتبر عملة قانونية في فلسطين بعد اليوم الحادي والثلاثين من شهر آذار سنة 1928م. "
وما ان التقط الشعب العربي الفلسطيني هذه النقود حتى اكتشف ما سجل عليها من حروف تدل دلالة قاطعة على تأييد الانتداب البريطاني ليس كما يدعون في صياغة وعد بلفور من وجود وطن قومي لهم دون المساس بالشعب العربي الفلسطيني وآماله، لا بل أثبتت بأنهم يؤيدون قيام "دولة قومية وسياسية لليهود على أرض فلسطين ، وذلك بوضعهم بعد اسم "فلسطين" بالعبرية حرفين هما "الألف" و"الياء" العبريتان اختصاراً لكلمتي "ارض اسرائيل"، مؤكدين بذلك ضلوعهم في المؤامرة، ولكن بشيء من الخجل الممزوج بالخبث والدهاء خجلاً من العرب وارضاءً لليهود، خاصة وان النقد ضرب في عاصمتهم "لندن".
هذا التلاعب اكتشفه الشعب الفلسطيني، فهب محتجاً ومتظاهراً في شوارع يافا والقدس وبقية المدن الفلسطينية بمظاهرات صاخبة أطلق عليها "مظاهرة النقود" قامت القوات البريطانية بالتصدي لها بقوة السلاح، الا انه وكالعادة جرت مظاهرات واحتجاجات واجتماعات بلا ظهير عربي قوي، فالظهير العربي ممزق ومتشردم ومهترئ على الرغم من امتلاكه قدرات اقتصادية وإمكانات جغرافية وطاقات بترولية هائلة تمكنه من فرض ما يريد ولو بقد جزئي يرفع عنه المهانة.
لكن وعلى الرغم من هذا بقي اسم فلسطين باللغة العربية الأولى كدليل على حق هذا الشعب، وبعد ذلك قام الشعب الفلسطيني بتبديل ما لديه من نقود مصرية بواقع 97.50 قرشا لكل جنيه فلسطينيي، مما أدى الى ارتفاع الأسعار بشكل فجائي ضاعف معاناته الاقتصادية التي كان يكابدها من قبل.
وفي الوقت نفسه حدد مرسوم النقد الفلسطيني وزن الجنيه الفلسطيني الذهبي ب 27447،133 حبة من الذهب الخالص بعيار 2/3 916% مطابقاً بذلك الجنيه الذهبي الانكليزي، ولو انه في الحقيقة لم يكن للجنيه الفلسطيني الذهبي هذا من وجود، فهو مجرد شعار اسمي ولم يسك على الاطلاق ولم تكن هناك نيه لضرب نقود ذهبية.
وقد بلغت النقود المصرية التي كان يتداولها الشعب الفلسطيني عند استبدالها نحو 2 مليون جنيه في فلسطين.
وعليه فقد طرحت في الأسواق الفلسطينية نقود تحمل اسم "فلسطين" وكانت على نوعين:
مسكوكات معدنية وأخرى ورقية سكت جميعاً كما ذكرنا في مدينة لندن ووضعت تصاميمها وصورها وزخارفها بمعرفة الانكليز الذين اكتفوا بوضع أشكال وصور ورموز طبيعية مثل غصن الزيتون وصور لبعض الآثار العربية الإسلامية وبعض الصور التي توهموا بأنها تعود الى تراث يهودي، وهي في الحقيقة آثار عربية إسلامية. وربما كان وراء عدم وجود رموز سياسية هو إرضاء لليهود أكثر منه مخافة العرب.
وقد قسم الجنيه الفلسطيني إلى ألف مل(1000 مل أو مليم) ولم يكن بينه وبين أصغر وحداته (المل) وحدة متوسطة العدد. لهذا فقد اطلق لفظ "تعريفة" و" القرش" على خمس مليمات وعشر مليمات.
وقد ظهرت من النقود المعدنية "النيكل" و "البرونز" الفئات التالية:
1 مل، 2 مل، 5 مل "تعريفة"، 10 مل "القرش"، 20 مل "قرشان"، وجميعها من النيكل و البرونز، وهناك فئة الخمسين مليماً "الشلن" وهو من الفضة، ومائة مل من الفضة ايضاً "البريزة".