الأخلاق والضمير قرناء، ولا يمكن التفريق بينهما. فهما كالتوأمين. الأخلاق من السماء، والضمير جهاز مركب داخل الجسد في الأرض، فهو جهاز داخلي مصمم تماماً على الأخلاق الآتية من السماء.
لذلك، لاحظ معي هذا المعنى العجيب بين كلمة خُلق وكلمة خَلْق.. أنهما من أصل واحد. أصل كلمة خُلق من الخلقة، لأنّه من صلب الخلقة، ومن هنا كان حديث النبي (اللهم صلى عليه): "اللّهمّ كما حسنت خَلقي فحسن خُلقي". لذلك، من تكتمل عنده الأخلاق يكتمل فيه معنى الإنسان الحقيقي.
ولهذه الأهمية الكبيرة للأخلاق، نحن في هذا الموضوع مع خُلُق كله رحمة بالناس، حتى نضمن نصيبنا من رحمة الله. فعلى قدر مستوى رحمتك بالناس يكون نصيبك من رحمة الله، وكأنّهما كفّتا ميزان، على قدر ما تضع في هذه الكفة للناس يضع الله لك في كفتك رحمة بك.
خلق اليوم اسمه كفّ الأذى
كُفّ أذاك عن الناس تتنزل عليك الرحمة. إياك أن تؤذي الناس، واستمع لحديث النبي (اللهم صلى عليه): "المسلم من سلم الناس من لسانه ويده". انظر إلى النبي كيف يعرف المسلم الحقيقي: هو الذي يكف أذاه عن الناس، كل الناس. وانظر إلى تقديم النبي للسان على اليد على الرغم من أنّ اليد أخطر، لأن الإيذاء باللسان أسهل وأيسر، ولكنه أشد تأثيراً على النفس من الإيذاء باليد، ولذلك يقول الشاعر:
جراحات السنان (يعني السيف) لها التئام** ولا يلتامُ ما جرح اللسانُ
وكفّ الأذى سر السلام الاجتماعي. وإذا كان الإسلام قد نادى بحق الإنسان في الحياة ودعا إلى حمايته من آفات المجتمع، فإنّه دعا إلى خير المجموع وصيانته من شرور الفرد، وطالب الفرد بأن يرعى حق الجماعة في سبيل حفاظه على حقه، وألا ينسى أن صلاحه يعود على المجتمع بالطبع.
ولهذا، تعددت وتنوعت الأحاديث التي حث فيها النبي (اللهم صلى عليه) الفرد والمجتمع على كف الأذى، ومراعاة حقوق الآخرين، وعدم التعدّي عليها، حتى لو بمجرد التعدي المعنوي.
استمع معي إلى هذه الأحاديث لنرى معاً اهتمام الإسلام بهذا الخلق.
عن نافع عن ابن عمر (رضى الله عنه)، قال: صعد رسول الله (اللهم صلى عليه) المنبر، فنادى بصوت رفيع، فقال: "يا معشر.. من أسلم بلسانه ولم يفضِ الإيمان إلى قلبه.. لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنّه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله".
لاحظ شرح النبي (اللهم صلى عليه) للإيذاء، وكلها أشياء غير مادية، ولكن كف الأذى ولو لمجرد الإيذاء النفسي.
قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) (الأحزاب/ 58).
بل الإيذاء يبطل ثواب الصدقات والأعمال الصالحة قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى...) (البقرة/ 264).
بل جعل الإيذاء وعدم كف الأذى سبباً من أسباب دخول النار. "قال رجل: يا رسول الله.. إن فلانة يذكر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها. قال: هي في النار، قال: يا رسول الله.. فإن فلانة يذكر من قلة صيامها وصلاتها وصدقتها وأنها تصدق بالأثوار من الأقط ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال: هي في الجنة".
ولكن موضوع كف الأذى موضوع فضفاض. كيف أحكمه؟ وكيف أحدده؟ وما حدود كف الأذى؟
كف الأذى يكون بالحواس: الشم، السمع، البصر، اللمس.
فتكف الأذى عن طريق الشم، بأن تكف أذى رائحتك من الأكل أو من دخان السجائر أو دخان السيارة. عن أبي هريرة (رضى الله عنه)، قال: قال رسول الله (اللهم صلى وسلم عليه): "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنّ مسجدنا ولا يؤذين بريح الثوم". وفي لفظ "فإنّ الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنوم آدم". والحديث، وإن كان في المسجد، ولكنه يختتم بأن الرائحة تؤذي الناس كما تؤذي الملائكة، وفيه دعوة نبوية لمراعاة كف الأذى عن طريق حاسة الشم.
ويكون كف الأذى عن طريق السمع، بكف أذى صوتك وأذى لسانك أو أصوات منبهات السيارة أو صوت التلفاز أو الغيبة والنميمة، وأشد أنواع إيذاء السمع هو إيذاء مشاعر الآخرين.
وهو يكون عن طريق النظر بأن تكُف عن أذى عيون الناس بإلقاء القمامة في الشوارع أو إلحاق ضرر بالبيئة من حيث الشكل الجمالي لها، فتكون أنت السبب في تغييرها إلى الأسوأ، وبالكتابة فوق المنشآت والواجهات.
وعن طريق اللمس كُفّ أذى يديك، ولا تضرب أحداً، وتعلم من رسول الله (اللهم صلى عليه) "ما ضرب رسول الله امرأة ولا طفلاً ولا خادماً قط".
وكُف أذى كل حواسك. جرب وحاول هذا الأسبوع أن تعيش بهذا الخلق حتى تصل إلى تعريف المسلم الحقيقي، لأنك سلمت الناس من لسانك ويدك، وحتى تكون قمت بأداء آلاف الصدقات عن نفسك. إنّ المسلم، كما يؤجر على فعل الطاعات وبذل المعروف، كذلك يؤجر على كف الأذى وصرف الشر عن الناس، لأن ذلك من المعروف، وداخل في معنى الصدقة. قال أبوذر: "قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك".
وعن أبي موسى، عن النبي (اللهم صلى عليه) قال: "على كل مسلم صدقة. قيل: أرأيت إن لم يجد؟ قال: يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق. قال: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يعين ذا الحاجة الملهوف. قال: قيل له: أرأيت إن لم يستطع؟ قال: يأمر بالمعروف أو الخير قال: أرأيت؟ إن لم يفعل. قال: يمسك عن الشر فإنّها صدقة".
وكف الأذى لا يقتصر على المسلمين فقط مع بعضهم بعضاً، ولكنه خلق يجب أن يتبع مع غير المسلمين أيضاً، لقوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة/
.
إنّ التقصير في هذا الخلق خطره عظيم، لا يمكن تداركه في الآخرة. فينبغي للإنسان أن يكون حريصاً على ألا يلتقى الله وقد آذى من الناس، ويعرض نفسه للخطر، ويذهب حسناته. وقد قال رسول الله : "أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال : إنّ المفلس من أُمّتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي وقد شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته من قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثمّ طرح في النار".
وإذا كنّا نطالب الناس بكف الأذى، فنحن نطالب من يتعرض للأذى بالصبر والاحتساب وعدم رد الإساءة بالإساءة، ولكن بالردع الإيجابي والإحسان أيضاً. قال الله تعالى: (لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) (فصلت/ 34).
وساعد في إزالة الأذى من الطرقات ومن كل مكان قدر استطاعتك، وحسب إمكاناتك، ولا تتهاون في ذلك مهما كان حجم الأذى كبيراً أو صغيراً. عن أبي هريرة ، أن رسول الله اللهم صلى عليه قال: "بينما رجل يمشي بطريق، وجد غصن شوك على الطريق فأخره فشكر الله له، فغفر له إن شاء الله".
وقال رسول الله : "مر رجل بصغن شجر على ظهر الطريق فقال: والله لأنحين هذا عن المسلمين حتى لا يؤذيهم فدخل الجنة". فقد تكون صخرة أو غصن شجرة أو حتى قشرة موز أو كيس بلاستيك، يزيله أحدهم من طريق المسلمين، ونيته خالصة بكف الأذى عنهم، فيشكر الله له هذا الفعل، فيغفل له، فيدخله الجنة.
فلا تتردد. فالأذى الذي تكفه اليوم عن المسلمين تقابله مغفرة ورحمة من ربك، وأذى سوف يكف عنك غداً، فابدأ وستجد من حولك معك.
وبعد هذا العرض السريع لهذا الخلق العظيم، يأتي السؤال: كيف أستطيع تطبيق هذا الخلق في حياتي حتى يصبح صفة من صفاتي؟ نستطيع ذلك بخطوات عدة، منها:
1- اختر آية أو حديثاً أو قولاً مأثوراً من داخل المقال، أو متعلقاً بخلق كف الأذى، ويكون أثّر فيك، واجعله شعارك هذا الأسبوع.,
2- جرّب بنفسك.. حاول إماطة الأذى عن طريق الناس بحواسك، ولا تنسَ تجديد النية.
3- شجع غيرك على خلق كف الأذى لتضمن انتشار هذا الخلق بين الناس، وليعم الخير على الجميع، وعندما تشجع غيرك يزداد بداخلك الدافع للتطبيق.
4- الدعاء.. ادع الله بصدق وإخلاص أن يجعلك ممن يُسْلم الناس من لسانه ويده، وأن يحفظك من الوقوع في أذى الناس.
وأخيرا، أكثروا من دعاء النبي (اللهم صلى عليه): "وأهدني لأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت".