شيخ الإسلام ابن تيمية الإجابة: إثبات صفات الكمال له طرق:
أحدها: ما نبهنا عليه من أن الفعل مستلزم للقدرة ولغيرها.
فمن النظار من يثبت أولا القدرة، ومنهم من يثبت أولا العلم، ومنهم من يثبت أولا الإرادة، وهذه طرق كثير من أهل الكلام.
وهذه يستدل عليها بجنس الفعل، وهي طريقة من لا يميز بين مفعول ومفعول، كجهم ابن صفوان ومن اتبعه.
وهؤلاء لا يثبتون حكمة، ولا رحمة، إذ كان جنس الفعل لا يستلزم ذلك.
لكن هم أثبتوا بالفعل المحكم المتقن العلم.
وكذلك تثبت بالفعل النافع الرحمة،وبالغايات المحمودة الحكمة.
ولكن هم متناقضون في الاستدلال بالإحكام والإتقان على العلم؛ إذ كان ذلك إنما يدل إذا كان فاعلا لغاية يقصدها.
وهم يقولون: إنه يفعل لا لحكمة، ثم يستدلون بالإحكام على العلم، وهو تناقض.
كما تناقضوا في المعجزات حيث جعلوها دالة على صدق النبى، إما للعلم الضرورى بذلك، وإما لكونه لو لم تدل لزم العجز.
وهي إنما تدل إذا كان الفاعل يقصد إظهارها ليدل بها على صدق الأنبياء.
فإذا قالوا: إنه لا يفعل شيئًا لشيء تناقضوا.
وأما الطريق الأخرى في إثبات الصفات وهي: الاستدلال بالأثر على المؤثر، وأن من فعل الكامل فهو أحق بالكمال.
والثالثة: طريقة قياس الأولى، وهي الترجيح والتفضيل، وهو أن الكمال إذا ثبت للمحدث الممكن المخلوق، فهو للواجب القديم الخالق أولى.
والقرآن يستدل بهذه، وهذه، وهذه.
فالاستدلال بالأثر على المؤثر أكمل، كقوله تعالى:{
وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15]، قال الله تعالى: {
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15].
وهكذا، كل ما في المخلوقات من قوة وشدة تدل على أن الله أقوى وأشد، وما فيها من علم يدل على أن الله أعلم، وما فيها من علم وحياة يــدل على أن الله أولى بالعلم والحياة.
وهذه طريقة يقر بها عامة العقلاء، حتى الفلاسفة يقولون: كل كمال في المعلول فهو من العلة.
وأما الاستدلال بطريق الأولى فكقوله: {
وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} [النحل: 60]، ومثل قوله: {
ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ} [الروم: 28]، وأمثال ذلك مما يدل على أن كل كمال لا نقص فيه يثبت للمحدث المخلوق الممكن فهو للقديم الواجب الخالق أولى من جهة أنه أحق بالكمال؛ لأنه أفضل.
وذاك من جهة أنه هو جعله كاملا وأعطاه تلك الصفات.
واسمه [العلي] يفسر بهذين المعنيين؛ يفسر بأنه أعلى من غيره قدرًا، فهو أحق بصفات الكمال.
ويفسر بأنه العالى عليهم بالقهر والغلبة، فيعود إلى أنه القادر عليهم وهم المقدورون.
وهذا يتضمن كونه خالقًا لهم وربًا لهم.
وكلاهما يتضمن أنه نفسه فوق كل شيء، فلا شيء فوقه، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم
"أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء".
فلا يكون شيء قبله، ولا بعده، ولا فوقه، ولا دونه، كما أخبر النبى صلى الله عليه وسلم وأثنى به على ربه.
وإلا فلو قدر أنه تحت بعض المخلوقات، كان ذلك نقصًا، وكان ذلك أعلى منه.
وإن قيـل: إنه لا داخـل العالم ولا خارجــه، كـان ذلك تعطيـلا لـه، فهو منزه عن هذا.
وهـذا هـو العلي الأعلى، مع أن لفـظ [العلي] و [العلـو]، لم يستعمـل في القـرآن عند الإطلاق إلا في هذا وهو مستلزم لذينك لم يستعمل في مجرد القدرة، ولا في مجرد الفضيلة.
ولفـظ [العلو] يتضمـن الاستـعلاء، وغير ذلك من الأفعال إذا عـدى بحرف الاستعلاء دل على العـلو، كقـوله: {
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحـديد: 4] فهو يـدل على علـوه على العرش.
والسلف فسروا [الاستواء] بما يتضمن الارتفاع فوق العرش، كما ذكره البخاري في صحيحه عن أبي العالية في قوله: {ثُمَّ اسْتَوَى} قال: ارتفع.
وكذلك رواه ابن أبي حاتم وغيره بأسانيدهم رواه من حديث آدم بن أبي إياس، عن أبي جعفر، عن أبي الربيع، عن أبي العالية: {ثُمَّ اسْتَوَى}، قال: ارتفع.
وقـال البخاري: وقـال مجاهـد في قولـه:{
ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}: علا على العرش.
ولكن يقال: [علا على كذا]، و[علا عن كذا] وهذا الثاني جاء في القرآن في مواضع،لكن بلفظ [تعالى] كقوله:{
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 43]، {
عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [المؤمنون: 29]، وبسط هذا له موضع آخر.
والمقصود هنا أن كل واحد من ذكر أنه خلق، وأنه الأكرم الذي علم بالقلم، يدل على هاتين الطريقتين من إثبات الصفات، كما دلنا على الطريقة الأولى طريقة الاستدلال بالفعل.
فإن قـوله: {الْأَكْرَمُ}، يقتضي أنه أفضـل مـن غيره في الكرم، والكرم اسم جامع لجميع المحاسن.
فيقتضي أنه أحق بجميع المحامد، والمحامد هي صفات الكمال فيقتضي أنه أحق بالإحسان إلى الخلق والرحمة، وأحق بالحكمة، وأحق بالقدرة، والعلم والحياة، وغير ذلك.
وكذلك قـولــه: {خَلَقَ} فـإن الخـالـق قـديـم أزلى، مستغـن بنفســه، واجب الوجود بنفسه، قيوم.
ومعلوم أنه أحق بصفات الكمال من المخلوق المحدث الممكن.
فهذا من جهة قياس الأولى.
ومن جهة الأثر، فإن الخالق لغيره الذي جعله حيًا عالمًا قادرًا سميعًا بصيرًا، هو أولى بأن يكون حيا عالمًا قديرًا سميعًا بصيرًا.
و{
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}[العلق: 3 ـ 5] .
فجعله عليمًا، والعليم لا يكون إلا حيًا.
وكرمه أيضًا أن يكون قديرًا سميعًا بصيـرًا.
والأكرم الذي جعل غيره عليمًا هو أولى أن يكون عليمًا.
وكذلك في سائر صفات الكمال والمحامد.
فهذا استدلال بالمخلوق الخاص، والأول استدلال بجنس الخلق؛ ولهذا دل هذا على ثبوت الصفات بالضرورة من غير تكلف، وكذلك طريقة التفضيل والأولى، وأن يكون الرب أولى بالكمال من المخلوق.
وهذه الطرق لظهورها يسلكها غير المسلمين من أهل الملل وغيرهم كالنصارى، فإنهم أثبتوا أن الله قائم بنفسه حتى يتكلم بهذه الطريق، لكن سموه [جوهرًا]، وضلوا في جعل الصفات ثلاثة، وهي الأقانيم.
فقالوا: وجدنا الأشياء تنقسم إلى جوهر وغير جوهر، والجوهر أعلى النوعين، فقلنا: هو جوهر.
ثم وجدنا الجوهر ينقسم إلى حى وغير حي، ووجدنا الحى أكمل، فقلنا: هو حي.
ووجـدنا الحى ينقسـم إلى: ناطق وغير ناطق، فقلنا: هو ناطق.
وكذلك يقال لهم في سائر صفات الكمال: إن الأشياء تنقسم إلى قادر وغير قادر، والقادر أكمل.
وقد بسط ما في كلامهم من صواب وخطأ في الكتاب الذي سميناه: [الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح].
والمقصود هنا التنبيه على دلالة هذه الآية وهذه الآيات التي هي أول ما نزل على أصول الدين.
وقوله: {
عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، يدل على قدرته على تعليم الإنسان ما قد علَّمَه، مع كون جنس الإنسان فيه أنواع من النقص.
فإذا كان قادرًا على ذلك التعليم فقدرته على تعليم الأنبياء ما علمهم أولى وأحرى.
وذلك يدخل في قوله: {
عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، فإن الأنبياء من الناس.
فقد دلت هذه الآيات على جميع الأصول العقلية، فإن إمكان النبوات هو آخر ما يعلم بالعقل.
وأما وجود الأنبيــاء وآياتهم، فيعلم بالسمع المتواتــر، مع أن قولــه: {
عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}، يدخل فيه إثبات تعليمه للأنبيــاء ما علَّمهم، فهي تــدل على الإمكان والوقــوع.
وقد ذكرنا في مواضع أن تنزيهه يرجع إلى أصلين:
تنزيهه عن النقص المناقض لكماله.
فما دل على ثبوت الكمال له فهو يدل على تنزهه عن النقص المناقض لكماله.
وهذا مما يبين أن تنزهه عن النقص معلوم بالعقل، بخلاف ما قال طائفة من المتكلمين إن ذلك لا يعلم إلا بالسمع.
وقد بينا في غير هذا الموضع أن الطرق العقلية التي سلكوها من الاستدلال بالأعراض على حدوث الأجسام لا تدل على إثباته، ولا على إثبات شيء من صفات الكمال، ولا على تنزهه عن شيء من النقائص.
فليس عند القوم ما يحيلون به عنه شيئًا من النقائص.
وهم معترفون بأن الأفعال يجوز عليه منها كل شيء بخلاف الصفات.
لكن طريقهم في الصفات فاسد متناقض، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
الثاني: أنه ليس كمثله شيء في صفات الكمال.
والقرآن مملوء بإثبات هذين الأصلين بإثبات صفات الكمال على وجه التفصيل، وتنزيهه عن التمثيل سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
___________________
المجلد السادس عشر