لوحة أمل بين أحضان اليأس
أتقلب في كيان الماضي، بين الزهور والأشجار، وضحكات الأصدقاء من حولي، أريد أن أبقى هنا للأبد، في شجرتي وضحكة الأنغام من وراء الأفق، ولكنه أتى! أتى ليخطفني من حضنك يا زمني،فلا أدري؟ كيف سأغادر إلى ثنايا الظلام البارد، ودمع السنون الحائر، إلى البرد القارص، والوحدة المتجمدة في سجن بات جزء من كياني ووجداني.
أحلم بنقاء البحر يزهو الوجود،وشمس تسكب أشعتها فوق خدود المدينة، لتعيد لها الحمرة من جديد،فتضئ عيون البحر الحزين،ونرقص على سواحله يغشانا الضباب الشفاف،يتناغم من حناجره صوت يطرب المكان،ويتسلل عبر النافذة الذهبية، يدفئني بدفئه جميل،أطير بجوانحي،يداعب جسدي بلمسة حب دافئة،أرمي الماضي بعيداً أعدو في المروج،واستنشق رائحة الزهور،وتداعب النسائم جدائل شعري برقة وبراعة،فأشعر أنني حر في سجن الحياة الأبدية،أرتدي ثوب الحرية،مزركشاً بالفل الذهبي،أجر أذياله في موكب بهاءي وتجديد كياني،كأنني ملاكٌ صغير أطير بين الحقول، لتداعبني الزهور،وأمرر خدي عليها وأقبلها زهرة زهرةً،أطير كالنسمة في سمائها،وأعلو...وأعلو كحمامة بيضاء تتراقص مع شعاع الشمس،لأصير نجمة تضئ هذا العالم الحزين،لأغني لشعب لم يعد يسمع سوى صوت طبول الحروب،سأغني!أجل سأغني أنشودة تخرجنا من هذا السكون،وسأغني أنشودة تطرب كل الجموع،سأغني أنشودة الحرية لأجلك يا حبي ويا فؤادي فلتسمع ما أقول في مغناك.
فُتحت الستارة ليتبدد الحلم مع الرياح،ليطرب صوت أمي في أذني قائلة:انهضي يا راما لقد تأخرت!!،فلم أعطها أي اهتمام،وعدت إلى رقص مع نجوم بحري،وأعادت الكرة مرة أخرى،وعندما رأتني غير مبالية أمسكت الغطاء،قائلة:هيا انهضي كفاك اختباء تحت الغطاء،وكنت أصرخ باكية:أرجوك يا أمي دعيني وشأني دعيني...دعيني.. ولكن أمي لم تعلم... لماذا اختبئ تحت الغطاء،فأخذت أشد بقوة،وهي تشد في معركة حامية،ولكن سرعان ما كان الانتصار لأمي في هذه المعركة،فتركت الغطاء خشية الوقوع عن السرير.
وأخيراً نهضت من فراش أحلامي،لأسرع إلى نافذة،وأطل على شارع مستقبلي،فنظرت هنا وهناك،لعلي أرى أحداّ من صديقات طريقي،ولكنني للأسف لم أرَ أيا منهن،فامتد نظري إلى السماء الملونة بالغيوم السوداء،فلبست معطفي ونزلت أولى درجات دربي،مسرعة في طريقي وخطاي.
فتسارعت خطوات في طريقي إلى المدرسة،ولكنني كنت أشعر أنها تتباطأ شيئاً فشيئاً،فلقد كانت مخاوفي كبيرة بسب تأخري، ماذا سأفعل؟ماذا سأقول لمعلمتي؟وماذا إن كانت أبواب المدرسة موصدة في طريقي،سأرجع خائبة إلى البيت،لا!!! لن أرجع خائبة إلى البيت،وسأكمل طريقي من دون تردد،فالخيبة ليست في قاموس مفرداتتي.
فتابعت المسير يدفعني الأمل،والشمس مختبئة خلف الغيوم،والشارع مسود الخدين،فلم يكن كعادته فرحاً براكبيه، فلقد كان خالٍ من أصدقائه ،والهواء لا يكاد يحرك أطرافه ،ويسوده الصمت القاتم ،فجاء ذلك الكلب المسعور ليمزق بعويله صمت الهواء ويملئه نواحا وعويلاً ،وبدأ قلبي يهز أطرافي ،وامتزجت قدامي مع الطريق، فأخذت أنظر يمنة ويسرى لعلى أجد مخبأ يضمني من هذا الكلب المجنون,ولكن عبثا,فإلى أين المفر من قنابله.
وبدأ يخنقني خوفي, من اقتراب الطائرة من خلف الغيوم, وتذكرت قول أمي لي في الصباح: بنيتي لا تخاف حين يداهمك الخطر !,فأفضل مكان تختبئن فيه هو قلب الخطر نفسه,وليكن دائما قلبك مع الله... فالتفت من حولي وشعرت بسعادة غامرة تملأ كل جسدي, فما أجمل أن تشعر بهذا الشعور أن الله يحميك في كل خطاك, وتوارت طائرة العدو خلف الظلام من جديد ,فعاودت السير في خطى مترددة, وأنا أقرا قصيدة كتبها المقاومون على جدار الحرية...
((ان كان زفافك بين زخات الرصاص...بين أكتاف الرفاق...على خرير دموع امتزجت بالفرحة وحرقت الفراق...إن كان نشيدك نشيد الشهادة....والموت بالنسبة لك ولادة...إن عشقت الموت... ورددت الشهادة بأعلى صوت...إن شعرت يوماً بأنك جسد ناسف...وأن روحك ستهيم يوما لتكون للوطن الفارس..فلسطيني!....فأنت فلسطيني!....فأنت فلسطيني!....))
لم يكد قلبي يلتئم حتى رجع الخوف إليه من جديد فمازلت في طريق إلى المدرسة,وما إن وصلت إليها حتى كانت واقفة بجلال وعظمة ,تبهر كل الناظرين إليها من شدة وقارها,وحاولت تحاشي النظر إليها,ونظر إلى هنا وهناك,لعلي أستطيع الابتعاد,فأخذت اللوحة في أعلاها تشد نضري إليها... الفاخـــــورة... مركبة تترجل بالأجيال إلى المستقبل ،صرح شامخ في مكانه دون رضوخ للزمن ,يصنع في داخله قلوبا لا تعرف كلمة محال .
فأخذت أتقدم الخطى , وإذ ببابها مفتوح على مصراعيه, فتعجبت من الأمر ,لعلهم يتوقعون هجوم الطائرات الإسرائيلية, نظرت هنا وهناك,ولم أرى أحداً وتقدمت كاللص الخائف المذعور وبهمس وهدوء شديدين, وصلت الصف.
وإذ بمعلمتي تنادي من خلف زجاج الباب... هيا ادخلي,وتأذن لي بالدخول فزال الهم من على كاحلي,وكأنه إعصار كان يعصف بقلبي,وجلست على مقعدي,وإذ بالمعلمة تسأل: من تأتيني بتشبيه حسي مبتكر للوطن, فنهضت إحدى زميلاتي وقالت:أشبهها بالبحر فهي صامدة ونقية مثله تماماً,فأجابت المعلمة: نعم ,ولكن البحر قد يؤذي سكانه وبلدنا ليست كذلك , فقالت أخرى:إن وطني كالقمر في نوره وضيائه,فعلقت المعلمة : ولكن القمر بشع بأرضيه ووطننا يزهو ببساتينه,فنظرت إلي قائلة: ماذا عنك يا راما؟ فأجبتها من دون تردد: وطني خبزي, فضحكت كل الطالبات بسخرية –كيف هذا؟ كيف يمكن أن يكون الوطن كالخبز؟ - فسألت المعلمة عن سبب تشبيهي هذا , فقلت لهن : أنا لا أستطيع العيش من دون خبز ولا أستطيع العيش من دون وطن يحميني ويؤويني بين ذراعيه, ليراني فتاةً تصنع المستقبل بيديها .
وبينما نحن نتناول الحديث وضحكات تزهو المكان ومن دون سابق إنذار...فجأة !!!, ضرب صوت كالرعد , هز كل مكان,وتزلزلت الأرض من تحت أقدامنا, وصوت يعلو ويعلو ووهج يقترب شيئاً فشيء,فلقد لحقني ذلك الكلب المسعور إلى هنا , ليحطم أخر آمالي في حياة كباقي الأطفال,المعلمة تصرخ فلتخرجن بسرعة من هنا, فخرجنا بأقصى سرعتنا, ونظرت للمعلمة وهي تبتسم وتقول لي إن لكِ مستقبل باهر,كانت آخر كلماتها,والقنبلة تسقط لتحطم حلم حياتي،وتأخذ أمي وبيتي ومستقبلي,وغبت عن الوعي على آخر مشهد يحفر في ذاكرتي تمزقه مخالب القنبلة وتحرق ضحكت زميلاتي ومحيا معلمتي.
وصحوت من غيبوبتي ,إذ أنا مقيدة على الجدار, فأدركت حينها أن العدو قد قبض على جسدي ,وكان وجه جندي يضحك بكل فخر بما فعله,ويقول لي: قتلت كل أفراحك وحطمت حلمك بقبضتي كما سأحطم حياتك بقدمي,فضحكت باستهزاء مما نبح ذلك الحيوان القذر وقلت له:لكنك لن تحطم حربتي وعزة نفسي,وسأبقى فلسطينية ,فضربني حتى سال الدم من فكي,وفجأة !!!توقف الضرب فنظرت....وكان يمسك بيده قائده ويقول له: إياك أن تمد يديك على هذه الفتاة فدهشت في البداية,وبادلني بابتسامة ورجع أدراجه,والحيرة تملأ الفؤاد, فشغل الأمر تفكيري,وبقي يملئ عالمي حتى اليوم التالي ,فأتى إلي ونظر بابتسامة خفيفة على شفتيه ,فقلت له : ما سبب؟ما سبب منعك أن يضربوني؟،فأجابني:أنني أشبه أختاً له مات في الحرب،لذلك لم يرد أن يحصل لي مثلها، وغادر المكان،وترك في نفسي بسمة حفرت منذ زمن وفقدت معانيها، وقد أصبح حياتي، فكان يأتي كل يوم ليراني وتتطورت العلاقة بيني وبين ((جو))،حتى أصبحت أناديه أخي وحاول التحدث أكثر من مرة إلى القائد ليخرجني من السجن،لكن باءت كل محولاته بالفشل الذريع،ويوماً يطوي الأخر، صار كل منا روح الأخر،حتى أتى اليوم المنشود وأخبرني أنني غداً عائده إلى حضن افتقده منذ زمن.
شعرت في ذلك الوقت أن حلمي قد تحقق وسأعود لأرى من جديد أمي، وأرتمي في حضنها، وأقبل جبينها، وتلف يديها على صدري، وسرعان ما تحول الحلم إلى أسطورة خيالية، إذ دخل ذلك الرجل، أجل إنه هو...هو ذلك الرجل الذي لطالما عذبني،فأخبرنا أن هناك معركة دائرة في الخارج، ذهب ((جو)) معه وغادر بابتسامة تشبه ابتسامة معلمتي التي كانت أخر ما رأت عينيا فيها،وفي اليوم التالي عاد ذلك الرجل الحقود ،فسألته عن ((جو)) فقال لي:أنه ذهب مع ضياء مستقبلي،ولن يحمني أحد منه الآن،وعاد ليبرز صوته القذر في وجهي، ويستخدم أفظع وسائل العذاب معي،ليرغمني على قول((أنا يهودية))،لكنني لن أقبل ولن أرضخ فأنا فلسطينية قلتها صارخة بأعلى صوت بوجهه.
أجل فقد أمسكوا بجسدي وحطموه وصرت أكتب على الجدار بقطرات من دمي المتوهج بالحمرة، في غرفة باردة، عبارات تأكد لهم أنهم لن يرضخونِ ولن يأسروا حريتي ،فكتبت على الجدار أخر كلماتي،فقد أصدر الحكم بانتهاء حياتي،ولكن أتعلمون أني رأيت الشمس والبحر وهي ترقص كما حلمت تماماً وكنت الملاك الصغير وغردت بين الحقول الخضراء أنشودة الحرية:
((أنا فلسطيني...ولدت على ضوء سراج خافت...في أرض منسية...أعطوني هوية...قالوا إني لاجئ فلسطيني...يكتبون أسماء تقليدية...هوية خفية...ديانتي خفية...جنسيتي الأصلية...سأصرخ بصوت عالي:...أنا فلسطيني عربي...سرقوا جنسيتي الأصلية...لكني سأعاديها...سأعاديها بالبندقية...))
وكانت هذه أخر عبارات لي بنسجها الأمل في حياتي ليحتضنها اليأس في حضنه البارد ويسجلها ذكرى في تاريخ طفولتي التي كبرت مع صوت القنابل وحكايات الحروب.