آداب المجلس والجليس
الحمد الله غافر الذنب، وقابل التوب شديد العقاب، مسبب الأسباب، وهازم الأحزاب، والصلاة والسلام على محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الإنسان لابد له في حياته من معاملة الناس ومخالطتهم ومجالستهم؛ ذلك أنه لا يمكنه أن يعيش لوحده، بل إن المخالطة أمر لا مفر منه..
وهؤلاء الجلساء قد يكونون صالحين مصلحين، وقد يكونون فاسدين مفسدين؛ فإن كان الجلساء صالحين فإن المجالس ستكون مجالس خير وبركة وطاعة، وإن كان الجلساء فاسدين فإن المجالس ستكون مجالس حسرة وندامة ومعصية؛ فعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنما مثل الجليس الصالح وجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحا منتنة)1..
فهنيئاً لمن كان جلساؤه صالحين مصلحين يستفيد من مجالستهم في دينه ودنياه؛ يعلمونه إذا جهل، ويذكرونه إذا نسي، ينبهونه إذا غفل، يحثونه على كل خير، ويحذرونه من كل شر، وبعداً وسحقاً لما كان جلساؤه فاسدين مفسدين، يأمرونه بالمنكر، وينهونه عن المعروف، يدعونه ويشجعونه على كل رذيلة، ويثبطونه ويزهدونه عن كل فضيلة، فيا فداحة الخسارة لتلك المجالس ولأولئك الجلساء يوم العرض على رب الأرض والسماء؛ يقول الله-تبارك وتعالى-: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} سورة الزخرف(67).
ولتلك المجالس التي يجلسها الناس آداب وأخلاق، فمن ذلك ما ثبت في الحديث عن ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يقيمنّ أحدكم رجلا من مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا) وكان ابن عمر إذا قام له رجل من مجلسه لم يجلس فيه2.
شرح الحديث:
هذا الحديث يذكره المصنفون مع غيره من الأحاديث في آداب المجلس والجليس، ليبينوا فيها الآداب التي ينبغي أن يكون عليها الإنسان في مجالسه.
وقد ذكر الله –تعالى- ذلك الأدب الرفيع في كتابه الكريم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} سورة المجادلة(11).
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يقيمنَّ أحدكم رجلاً من مجلسه ثم يجلس فيه...)؛ يعني إذا دخلت مكاناً ووجدت المكان ممتلئاً فلا تقم شخصاً ثم تجلس في مكانه، ولكن إذا كنت لابد أن تجلس فقل: تفسحوا وتوسعوا، فإذا تفسحوا وتوسعوا فإن الله –تعالى- يوسع لهم: {إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ}.
أما أن تقيم الرجل وتجلس مكانه فإن هذا لا يجوز، حتى في مجالس الصلاة، لو رأيت إنساناً في الصف الأول فإنه لا يحل لك أن تقول له: قم، ثم تجلس في مكانه، حتى لو كان صبياً لكن يصلي، فإنه لا يحل لك أن تقيمه من مكانه وتصلي فيه؛ لأن الحديث عام، والصبي لا بد أن يصلي مع الناس، ويكون في مكانه الذي يكون فيه.
وأما قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: (ليليني منكم أولو الأحلام والنهى)3، فهو أمر للبالغين العقلاء أن يتقدموا حتى يلوا الرسول –عليه الصلاة والسلام-، وليس نهياً أن يكون الصغار قريبين منه، ولو كان أراد ذلك لقال صلى الله عليه وسلم: لا يلني إلا أولو الأحلام والنهى.
أما إذا أمر أن يليه أولو الأحلام والنهى، فالمعنى أنه يحثهم على التقدم حتى يكونوا وراء النبي -صلى الله عليه وسلم- يلونه، ويفهمون عنه شريعته، وينقلونها إلى الناس.
وكان ابن عمر-رضي الله عنهما- من ورعه إذا قام أحد له وقال له: "اجلس في مكاني" لا يجلس فيه، كل هذا من الورع، يخشى أن هذا الذي قام قام خجلاً وحياء من ابن عمر4..
بعض آداب المجلس والجليس:
للمجلس والجليس آداب كثيرة، ولكننا سنشير إلى أهمها، فمن ذلك ما يلي:
أولاً: السلام عند الدخول إلى المجلس، وعند الخروج منه؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلم فليست الأولى بأحق من الآخرة)5.
ثانياً: أن لا يقيم الرجل أخاه من مجلسه ثم يجلس فيه، بل يتفسحوا ويتسعوا؛ فإن ذلك مما يعمق الأخوة ويزيدها توثيقاً؛ قال عمر -رضي الله عنه-: "إن مما يصفِّي لك ود أخيك: أن تبدأه بالسلام إذا لقيته، وأن تدعوه بأحب الأسماء إليه، وأن توسع له في المجلس"6، وقد سبق الحديث عن هذا الأدب في شرح الحديث.
ثالثاً: إذا دخل الإنسان على جماعة فإن عليه أن يجلس حيث ينتهي به المجلس؛ فإن هذا هو فعل النبي -صلى الله عليه وسلم-، وفعل أصحابه؛ فكانوا إذا أتوا مجلس النبي -صلى الله عليه وسلم- يجلسون حيث انتهى بهم المجلس؛ فعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "كنَّا إذا أتينا النبي -صلى الله عليه وسلم- جلس أحدنا حيث ينتهي"7. وجلوس الإنسان حيث انتهى به المجلس دليل على تواضعه، وبُعده عن الكبر والعجب.
رابعاً: أن لا يفرق بين اثنين في المجلس؛ فعن أبي عبد الله سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طهر ويدهن من دهنه أو يمس من طيب بيته ثم يخرج فلا يفرق بين اثنين ثم يصلي ما كتب له ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى)8؛ إلا في حالة إذا أذنا له بالجلوس بينهما فلا بأس، وإذنهما يكون بالقول وبالفعل؛ وذلك بأن يقولا له تعال فاجلس هنا، أو بالفعل بأن يوسعان له ليجلس بينهما؛ فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده-رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلا بإذنهما)9.
خامساً: أن لا يتناجى اثنان دون الثالث؛ فعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إذا كان ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الثالث)10، وذلك إذا كانوا في مجلس لا يضم سوى ثلاثة أشخاص، والعلة في النهي عن ذلك أنه إذا تناجى اثنان دون الثالث فأن ذلك من الشيطان وهو مما يحزن الإنسان؛ كما قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} سورة المجادلة(10). قال المناوي-رحمه الله- مبيناً علة النهي التناجي: "لأنه يوقع الرعب في قلبه، وفيه مخالفة لما توجبه الصحبة من الألفة والأنس وعدم التنافر، ومن ثم قيل إذا ساررت في مجلس فإنك في أهله متهم"11، سابعاً: التيامن في الدخول الى المجلس والخروج منه، وشغل الأماكن بالجلوس، وإخلائها بعد المجلس، وفي توزيع الماء أو الطعام، حيث يبدأ بسيد المجلس ثم الأيمن فالأيمن؛ فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم يعجبه التيامن في كل شأن طيب من شؤنه؛ تقول عائشة: كان النبي-صلى الله عليه وسلم- يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله12.
ثامناً: أداء حق المجلس، من كف الأذى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (إياكم والجلوس في الطرقات)، قالوا: يا رسول الله ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه)، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: (غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)13.
تاسعاً: أن لا تكون تلك المجالس مجالس فيها مخالفات شرعية؛ كالغيبة والنميمة، والمراء والجدال والكفر والإلحاد، والغناء والمعازف والاختلاط وإثارة الغرائز والشهوات، وما إلى ذلك؛ قال الله تعالى لنبيه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} سورة الأنعام(68).
عاشراً: حفظ أسرار المجالس، وما ائتمنه عليه أصحابها، فإن إفشاء ذلك من الخيانة؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنما المجالس بالأمانة)14. وعن جابر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (المجالس بالأمانة إلا ثلاثة: مجلس سفك فيه دم حرام، ومجلس استحل فيه فرج حرام، ومجلس استحل فيه مال حرام بغير حقه)15.
حادي عشر: الإكثار من ذكر الله -تبارك وتعالى-، والصلاة على النبي-صلى الله عليه وسلم-؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما من قوم يقومون من مجلس، ولا يذكرون الله -تعالى- فيه إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة)16. وعنه -رضي الله عنه- أيضاً عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله –تعالى- فيه، ولم يصلوا على نبيهم فيه؛ إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم)17.
ثاني عشر: أن الإنسان إذا جلس مجلساً مباحاً ثم كثر فيه لغطه، وكثرت غفلته، وقل ذكره لربه؛ فإن عليه كفارة ذلك المجلس؛ وهي ما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه، فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك)18، فالسنة أن يدعو بهذا الدعاء في أي مجلس جلسه..
فيا أخي المسلم: هذه بعض آداب المجلس والجليس انتقيناها من نصوص الشريعة الإسلامية، نسأل الله أن ينفع بها كاتبها وقارئها، وجميع المسلمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
1 رواه البخاري ومسلم.
2 رواه البخاري ومسلم.
3 رواه مسلم من حديث ابن مسعود.
4 شرح رياض الصالحين(2/504- 505) لابن عثيمين.
5 رواه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي، وقال الألباني: "حسن صحيح"؛ كما في صحيح الترغيب والترهيب( 2707).
6 أدب المجالسة (31) لابن عبد البر النمري. الناشر: دار الصحابة للتراث – طنطا. ط(1) (1409 ).
7 رواه أبو داود والترمذي، وقال: "حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(3070).
8 رواه البخاري.
9 رواه أبو داود والترمذي وقال: "حديث حسن"، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب، رقم(3071).
10 أخرجه مسلم.
11 فيض القدير شرح الجامع الصغير(1/430) المناوي. الناشر: المكتبة التجارية الكبرى – مصر. الطبعة الأولى(1356هـ).
12 رواه البخاري ومسلم.
13 رواه البخاري ومسلم.
14 حسنه الألباني في صحيح الجامع، رقم (2330).
15 رواه أبو داود، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع، رقم(5914).
16 رواه أبو داود بإسناد صحيح، وصححه الألباني في تحقيقه للكلم الطيب، رقم(225).
17 رواه الترمذي، وقال: "حديث حسن"، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، رقم(2691).
18 أخرجه الترمذي، وصححه الألباني في صحيح الترمذي، رقم(2730).