موسيقى الثلوج المتساقطة خلف جدران غرفته تجعله يسترخي أكثر في سريره العريض ،
الذين كان فيما مضى من الأيام مريحا . فقد مر على شرائه عشر سنوات عجاف،نام خلالها
نوما مريحا.. الآن صار السرير قديم العهد،حيث تقوست فرشته واحدودبت كأنها ارض ضربها
الجفاف.
خارج غرفته وخلف شباك حريته أبيضت الأشجار والبيوت والحدائق والطرقات وكل ما وقع
ضمن دائرة الرؤية..أذهله الأمر. بدا المشهد كأنه من أفلام هوليود، خيالي ورائع وقوي
التأثير .. وقد يكون هو الذي عجل بإصابته بنوبة حنين وشوق للبيت البعيد،للعائلة
التي فرق بينها الدهر، ووزعتها لقمة العيش بين البلاد المشرقية والأخرى الغربية.
وقد يكون هو أيضا الذي أعاده بالحنين إلى منزل العائلة، لحضن الأم التي ودعها منذ
شب على الحياة،وخط السواد ذقنه الفتية.. تطلع إلى الثلوج وأخذ ينشد دون أن يدري
أبيات الشاعر العربي المهجري رشيد أيوب :
يا ثلج قد هيجت أشجاني ............. ذكرتني أهلي وأوطاني
بالله قل عني لجيراني .............. مازال يرعى حرمة العهد
يا ثلج قد ذكرتني أمي ............. أيام تقضي الليل في همي
مشغوفة تحتارُ في ضمي ............. تحنو علي مخافة البرد
كانت الثلوج المتساقطة بكثرة مثل كرات بيضاء طيارة،تهبط فتركب الواحدة خلف أختها
وتفعل بقية الحبات والكرات الشيء نفسه، مما يجعلها متلاصقة وواحدة كالبنيان
المرصوص. حيث عندما تهب الرياح لا تتطاير منها سوى الحبات التي لم تعمل كما أخواتها
وبشكل جماعي،مما يعني أنها خالفت تعاليم الجماعة،فوقعت في أسر الرياح.
أدرك ميمون بعد دقائق من ملاحقة الثلوج الطائرة والرياح العابثة بها أن عليه
الاقتراب أكثر من زجاج النافذة.. اقترب حتى ارتطمت أرنبة انفه الرفيع بزجاج النافذة
البارد.ألقى نظرة على الخارج، فرأى وجه الأرض بهي الطلعة،ناصع البياض،يلبس ثوب
زفافٍ من أجمل ما يكون.. ورأى ملائكة الرحمة وهم يعلمون الأطفال لعباً ثلجية لم
يتعلمها في طفولته. نظر إليهم وهم يعجنون الثلج لعباً نظرات متتالية فيها غيرة وعطف
وحنين لطفولة لم يعشها مثلهم.
أخذته الحمية حيث قرر منذ تلك اللحظة أن يكون إنسانا آخر ، مختلف عمن يدورون حوله،
مختلف عن الذين يلتقي بهم كل يوم.. ويقول لهم كل مساء تصبحون على أمل ووطن وجواز
سفر وديمقراطية من بنات أفكار المستقبل.
جرت العادة مؤخراً ان لا يرتشف قهوة الصباح مع زوجته،فهي منذ استلمت عملها الحالي
تصحو من نومها أبكر منه. حيث تتناول قهوتها الاكسبريس بشكل سريع جدا،ثم تخرج مسرعة
كي تلحق بأوتوبيس الساعة السادسة والنصف صباحا. لكنها قبل خروجها تكون أعدت للأطفال
حقائبهم وزادهم وملابسهم المدرسية. كان عليه هو بعد ان يصحو من النوم في السابعة
صباحا ان لا ينسى مواعيد الأطفال، إفطارهم ثم ذهابهم إلى المدرسة بين الثامنة
والثامنة والربع صباحاً.
كل صباح مر عليه شبيه بالصباح الذي سبقه.. يجلس مع أطفاله حول المائدة ينظر إليهم
وهم يتناولون طعامهم،ويتجادلون ويختلفون ويحتدون فيما بينهم،ثم يحتكمون له،فهو الأب
والحكم..وهو أيضا بمثابة القاضي الذي يحكم بينهم ويحل خلافاتهم الطفولية،وهي بالطبع
خلافات على أشياء صغيرة أو غير ذات قيمة ومضحكة،لكنها بالنسبة لهم مهمة. ينطق بحكمه
الذي يعجب البعض ولا يعجب البعض الآخر .. ثم يعود لارتشاف قهوته،حين تظهر على محياه
ملامح استغرابه من الكمية القليلة المتبقية في قاع الفنجان. لكنه كان يرى فيها
إشعارا بان الوقت حان لذهاب الأطفال إلى مدارسهم.
ميمون من محبي القهوة بالحليب،عادة غربية اكتسبها من الإقامة في بلاد أوروبا ، ففي
بلاده المشرقية الحليب يصل إلى الدار من دار الجيران، الذين يملكون الأبقار أو
الماعز ، وليس كما هي هنا في علب وقوارير وأشكال وأنواع متعددة، تقوم زوجته بغسلها
وجمعها في كيس بلاستيكي خاص بالقمامة ، تحمله معها لتودعه مكب النفايات وهي في
طريقها إلى العمل.
يخرج الأطفال متجهون نحو مدرستهم التي لا تبعد كثيرا عن المنزل.تهاحمه النسمات
الباردة فوراً ، يشعر ببرودة وصقيع الجو عندما يفتح باب المنزل.. يهرولون الى
الخارج، يلوح لهم بيده مودعاً، يحس بالبرد الذي حملته النسمات الجليدية وهي تتسرب
إلى جميع أنحاء جسمه. حيث تعكس وضع الجو البارد جداً. مما يعني انه يوجد صقيع
وزمهرير وجليد،وثلوج بيضاء.
بعد خروج الأطفال وقف في المطبخ يمعن النظر في ميزان درجة الحرارة المعلق على
الشباك من خارجه،كانت إشارة الميزان متوقفة عند الدرجة الثالثة تحت الصفر،مما يعني
أن درجة حرارة الجو في الخارج ناقص ثلاث. ذكرته درجات الحرارة بابنه الأصغر الذي
كان في الأسبوع الفائت يقوم بتعلم فحص ومعرفة فحص وتحديد وكتابة درجات الحرارة.كانت
تلك المهمة من واجباته المدرسية لخمسة أيام متتالية،وكان يقوم بكتابة درجات الحرارة
بعد التأكد منها على أوراق مدرسية خاصة. وقد كان الطفل الصغير يقف كل يوم صباحا على
الكرسي كي يتمكن من رؤية ميزان الحرارة المعلق على الإطار الخارجي لنافذة
المطبخ.بعد ذلك يبدأ قراءة الأعداد، واحد اثنان ثلاثة أربع ثم يضيف ناقص أو زائد،
فإذا كانت الدرجة فوق الصفر يكتب الرقم بالخط الأحمر،مما يعني إن الجو ليس باردا
جدا ، وإذا كانت تحت الصفر يكبته بالخط الأزرق،إشارة إلى قساوته و برودته. أما إذا
كانت صفراً فلم يكن الأب يدري ما الذي على الطفل وضعه أي الالوان..لكن من حسن حظ
الأب والابن أن درجة الحرارة في تلك الأيام لم تتوقف أبداً عند الصفر.
تذكر صبيحة ذلك اليوم أنه حينما كان تلميذا صغيرا قامت مدرسته برحلة إلى جبل
البركة،كان الثلج شيئا عجيبا يراه مع زملائه لأول مرة في حياتهم. يومها لعبوا على
الثلج حتى تجمدت أعضائهم من البرد. جلسوا تحت الشجر،التهموا كل ما كان بحوزتهم من
سندويشات،وشربوا شايا ساخنا فاحت منه رائحة الميرمية والنعناع.. وقبل ان يقفلوا
عائدين لاحظ أن الشجر في منطقة جبل البركة كان واقفا ولم يكن يمشي كما سمع يوما ما
في أغنية لمطرب محلي محبوب.اقتنع بأن شجر جبل البركة يبارك الأطفال الصغار ويعيد
الدفء لما تجمد من أعضائهم،بعدما رأى ثمار ه وهي تهبط من علٍ لتحط بالقرب منهم،حيث
التهموها بشهية.