يتطور العقل البشري بتطور مجالات
الكون ، والإنسان ، والزمان فتزداد اهتمامات هذا العقل في شتى طموحاته
وتطلعاته وآفاق حدود معرفته ومع تطور هذا العقل البشري تبدأ الهوة الفاصلة
بين أزمنة الإنسان الحضارية ماضيا وحاضرا ومستقبلا من جهة وبينه وبين باقي
الكائنات من جهة أخرى وهو مايمكن وصفه جريا على الاصطلاح بالتاريخ .
ولعل الخاصية الأساسية لمصطلح التاريخ والتي يكاد يجمع عليها كل فلاسفة
التاريخ هي الارتباط الوثيق لهذا المصطلح بالإنسان كوعي فمن التجاوز تعميم
التاريخ بهذا المفهوم ليشمل غير الإنسان ذلك أن الإنسان وحده هو الذي يملك
تاريخا وهو الذي يصنعه أيضا في حين أن الحيوانات والجمادات إنما لها مصير
يحدد سيرورتها وصيرورتها .
وإن في هذا من الدلالات ما ينعكس على واقع العقل في مجالات تقدمه العلمي
والاجتماعي والسياسي ليكون بذلك معطى من معطيات الوجود الإنساني وبتعبير
أدق فإن ارتباط الإنسان بالتاريخ يفضي إلى مسلمة هامة هي ارتباط التاريخ
بالوعي بشقيه الذاتي والمجتمعي معا .
التعريف العام بالتاريخ : -
يمكن بتعريف مبسط تقديم التاريخ على أنه " علم الخبر " كما عرفه المسلمون
أو أنه " فن الإخبار " كما يقدمه الإعلاميون أو هو " منهجية استقاء الخبر
من مصادر وثيقة ودقيقة بالمفهوم المعاصر وذلك بغية التعرف على حياة الشعوب
والأمم بأقل ما يمكن من الخطأ , ولقد تبارى القدماء والمحدثون بدءا
بالمسلمين وانتهاء بالغربيين في إعطاء تعار يف للتاريخ توعية منهم للمؤرخ
برسالته في كونه المؤتمن على ماضي الأمم والشعوب مما يتطلب التحلي بأكبر
قدر ممكن من الأمانة تسمح به الذات الإنسانية في مثل هذه الظروف .
ولعل إحدى الصعوبات المنهجية لفيلسوف التاريخ تتجلى في وجود قاموس واسع من المفردات في محاولة تناول موضوع التاريخ .
فالتاريخ ، والتأريخ ، والتاريخية ، والتاريخانية ، والأرخانية ، والتأرخة ،
والآراخ ، كلها أدوات تستخدم في القاموس التاريخي المعاصر وهي اشتقاقات
لمصدر أرخ ، ضاعفت كلها من صعوبة التعاريف ، وبالتالي الرسو على قاعدة تحدد
المضامين لمعاني التاريخ .
كما أن اختلاف اللغات ، والمدارس ، والمجتمعات قد أضافت إلى مهمة فيلسوف
التاريخ صعوبة في إعطاء تعريف موحد يمكن أن يتفق عليه الجميع ويكاد كل
تعريف للتاريخ يفضي إلى مضمون أيدلوجي يحكي واقع الثقافة التي ينبثق منها .
التعريف الخاص للتاريخ عند المسلمين : -
يعتبر المسلمون من أقدم الشعوب عناية بالتاريخ إذ أن العرب ومن قبل الإسلام
مهدوا لظهور فكرة التاريخ حيث إن التاريخ عندهم مرادف لنشأة القبيلة وما
يصاحبها من أصالة ونسب وإثبات وجود أي أنه تصوير للخبر وبالتالي لمعنى
التاريخ الذي كان متداولا قبل الإسلام كالانتماء القبلي وتحقيق الأنساب
وتدوين أيام العرب شعرا ورجزا ومثلا وحكمة .
غير أن المسلمين في بداية الإسلام أخذوا المعنى وطوروه مضيفين إليه تحت
تأثير عوامل عديدة معاني وقيم ومصطلحات ومفاهيم . ويمكن إجمال هذه العوامل
فيما يلي :
1 – التقاليد التي تهتم بالنسب والمفاخر
2- دعوة القرآن الكريم إلى الاهتمام بأحوال الماضين .
3 – مكانة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بين الناس مما جعل تدوين الأقوال والأفعال أمرا ضروريا .
4 - عناية العرب بالسنن والتقاليد والعمل على مراعاتها .
5 – اللذة التي يجدها الإنسان عند السماع
6 – عبرة التفكير وشمولية التاريخ لمجموع الحياة الإنسانية والمجتمعية .
إن التاريخ قد ولد في حضن الإسلام فارتبط في بداية نشأته بالحديث ثم بالفقه
ثم بعلوم القرآن ثم بالسياسة والحكم وليس من باب الصدفة أن يعلل رجل
كسفيان الثوري العناية بالتاريخ ببداية استعمال الكذب لدى الرواة فبقول :
لما استعمل الرواة الكذب استعملنا التاريخ وما ذلك إلا لأن التاريخ هو إحدى
الطرق التي يعلم بها النسخ في أحد الخبرين المتعارضين المتعذر الجمع
بينهما فالتاريخ إذن هو مقياس درجة المصداقية في الرواية وأحد الأدلة
لضبطها ويلي ذلك عناية التاريخ بالفقه إذ يرتبط تطور فكرة التاريخ بتطور
الفقه وتكون القراءة الحقيقية للتاريخ عند المسلمين قراءة فقهيه على الأقل
في بدايتها .
ومن هنا تبدو الملاحظة الجديرة بالتسجيل وهي
أن التاريخ في الإسلام بدا بداية معرفية ولم يبدأ بداية سياسية ، وأنه كان
تاريخ علماء ولم يكن تاريخ حكام وسياسيين بمعنى أنه كان على العكس من
التحول الخطير الذي أصابه اليوم – كان تاريخ أمة ولم يكن تاريخ فرد أو
قبيلة أو عشيرة وعلى العكس من ذلك فإن التاريخ الحديث والمعاصر والذي تبلور
في القرن الثامن عشر الميلادي كان تاريخ نخب ثم اتجه المؤرخون في القرن
التاسع عشر إلى صياغة رؤية للتاريخ بوصفه تاريخ المجتمع لقومي كله وفي
القرن العشرين برز التاريخ الكوني بوصفه التاريخ المتميز على التاريخ
الموحد لكل البلدان .
ويعرف المفكر مالك بن نبي التاريخ على أنه نشاط مشترك ومستمر مسجل على صفحة
الزمن بتأثير من عالم الأشخاص وعالم الأفكار وعالم الأشياء .
أما المؤرخ محمد البرج فيقدم لنا صورة مجسمة لمعنى التاريخ حين يقول :
إن التاريخ كالمرآة المثبتة أمام سائق السيارة تعكس له معالم الطريق في الخلف ليستطيع على هديها أن يسير بسيارته إلى الأمام بأمان
وفيما سبق عرف ابن خلدون التاريخ على أنه فن عزيز المذهب جم الفوائد شريف
الغاية إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين من الأمم وأخلاقهم والأنبياء في
سيرهم والملوك في دولهم وسياستهم حتى تتم فائدة الإقتداء في ذلك لمن يرومه
في أحوال الدين والدنيا .
وعلى أساس نظرة المؤرخين المسلمين المحدثين والمعاصرين فإن التاريخ تم ربطه
بكل العلوم التي تتصل بالإنسان والتي تغرس فيه الوعي وتنمي فيه على الخصوص
قوة الذاكرة المجتمعية أي العلوم التي تبحث عن الحقيقة وبذلك يكون التاريخ
عند المسلمين علما إنسانيا لأنه علم يتجه إلى الإنسان ليصنع الإنسان
الصادق في مجتمعه ويكون أداة معرفية لتصحيح وتمييز الكاذب من الصادق فيه
وعندئذ يتحول التاريخ عند المسلمين إلى أصل منهجي في الثقافة الإسلامية
التي تنشد الموضوعية وتعلو على الذاتية في أبشع صورها المعرفية